مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

مقامات العبادة

الشيخ نبيل منير أمهز


الإنسان بوجوده الخلقي في هذه النشأة، تنقسم علاقاته إلى أربع، الأولى مع نفسه، والثانية مع الناس، والثالثة مع الطبيعة أو الكون، والرابعة وهي الأساس علاقته مع اللَّه تعالى، ولها جنبتان: الأولى الجنبة الإلهية وهي ملازمة لوجوده من جهة قيوميته تعالى وإحاطته، وإلا لم يكن له وجود. والجنبة الثانية إنسانية لا تنفك عن الأولى، وأمَّا الكلام هنا فمن جهته الإنسانية التي يحفظ بها مقامه الذي أراده اللَّه تعالى له، وهو يعرف من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ (الأنعام: 125).

فالإسلام هو الطريق الذي يوصل إلى معنى العلاقة الحقيقية مع اللَّه تعالى وذلك لأنه مراده سبحانه وتعالى من خلقه "ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" (آل عمران: 31)، وهذا الإسلام المطلوب متوقف على تبعية الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران: 85) والتبعية متحققة بفهم الصراط المستقيم، في معاني الأخبار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "هو الطريق إلى معرفة اللَّه تعالى وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلَّت قدمه في الآخرة في نار جهنم".

وهنا يأتي السؤال لطالب المعرفة والحقيقة كيف نتمسك بهذا الطريق وكيف نحافظ عليه؟ اليقظة: وهي قيام العبد من مقام الغفلة، "وهي بداية الطريق"(1) كما قال مولى العارفين الإمام الخميني الشامخ(2) قدس سره، فبهذه اليقظة والتي منبعها من مقام النفس يتم الانتباه إلى كل ما يوصل إلى حقيقة القرب، الذي هو مطلب أهل الحق بحيث أن كل طارقٍ لطريق لا بد أنه يقصد من ذلك مقصداً، والمقصد هنا هو اللَّه تعالى.

* الطرق إلى اللَّه تعالى بعدد أنفاس الخلق‏
ورد في الآداب المعنوية للصلاة "الطرق إلى اللَّه بعدد أنفاس الخلائق"(3) وحصرها غاية الضعف، وما يستطيع الضعيف أن يسطره بلغة الأحرف، أنها تنقسم إلى قسمين أساسيين من جهة العبد الراجي سلوك الطريق القويم، فاللَّه تعالى يقول ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(البقرة: 82) ويقول: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ(الرعد: 28) وآيات كثيرة تبين هذا المقام، مقام الذين آمنوا ومقام الذين عملوا الصالحات. وعليه نفهم أن مقام الإيمان غير مقام العمل الصالح وهذان مقامان متلازمان لتحصيل رضا اللَّه تعالى فيتعين بهذه الجهة ومن هذا المقام أن الطريق ينقسم إلى قسمين:

الأول: إيمان واعتقاد وغيب وله علاقة بذات الإنسان، ويصح أن نسميه العمل الجوانحي وهو المتعلق بالقلب.

الثاني: وهو العمل الظاهر المتوقف على حركة الجسد وأدائه بالجوارح المقدورة لديه ونسميه بالعمل الجوارحي. والأعمال بينهما منقسمة إلى أقسام منها ما يكون جوانحي محض كالإخلاص والنية والحقد والحسد وما شابه، ومنها ما يكون جوارحي يكتمل بالجوانحي كالعبادات (الفرائض والمستحبات)، ومنها ما يكون جوارحي فقط كالمباحات، وعليه فإن مقام اليقظة عند طالب المعارف يدفعه إلى البحث عن الارتباط بين هذه المقامات ليرتفع إلى درجة المحسنين، "وهي مقام أن تعبد اللَّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"(4).

* العبادة في المقام الجوانحي‏

لا يخفى على أحد أن للإنسان حقيقة باطنية هي غير ظاهرة، وهي محل نظر اللَّه تعالى، لأن فيها حقيقة الإخلاص والنيات التي هي شرط في صحة الأعمال، بل هي حقيقة المحضر الربوبي من جهة اليقظة والانتباه أو المشاهدة والمكاشفة أو الفناء، التي أشرنا إليها بمقام "المحسنين" سأل ذعلب أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أرأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال له: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: كيف تراه؟ قال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان(5) وهذه إشارة إلى عيني القلب وهما البصيرة التي يُرى بها حقائق وبواطن المعاني، وعليه فأول مراتب القلب النظر إلى المحضر الربوبي، وإشعاره دائماً بالمراقبة الإلهية، فإن ذلك يرفع إلى مرتبة الحياء، قال الإمام الصادق عليه السلام: "القلب حرم اللَّه فلا تسكن حرم اللَّه غير اللَّه"(6) ومؤاده الذكر الذي هو أنس المحبين ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد: 29).

وللذكر مراتب ومقامات ليس هنا محل بيانها، وكل ما على صاحب الطريق أن يعرف أن الذكر يؤدي إلى مقام الطهارة القلبية حيث يصبح هذا القلب محل نظر اللَّه تعالى (لا ينظر اللَّه إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)(7) فيرتفع إلى مقام ﴿لَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين (المنافقون: 8) فيصبح المتصرف في قلبه أو في بيت نفسه هو اللَّه تعالى كما يقول مولى العارفين الإمام الخميني الشامخ قدس سره "فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلَّة العبودية يصل إلى عزِّ الربوبية، والطريق للوصول إلى الحقائق الربوبية هو السر في مدارج العبودية فما فقد من الإنية والأنانية في عبوديته يجده في ظل الحماية الربوبية حتى يصل إلى مقام يكون الحق تعالى سمعه وبصره ويده ورجله، كما في الصحيح المشهور عند الفريقين. فإذا ترك العبد التصرفات من عنده وسلم حكومة وجوده كلها إلى الحق وخلى بين البيت وصاحبه وفني في عزّ الربوبية فحينئذٍ يكون المتصرف في الدار صاحبها فتصير تصرفات العبد تصرفاً إلهياً..."(8) وهذا مقام التوحيد في كل مراتبه حيث يصل العبد إلى مقام طهارة القلب عما سوى اللَّه تعالى.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: "طهروا قلوبكم من درن السيئات تضاعف لكم الحسنات"(9) وقال: "طهروا قلوبكم من الحسد فإنه مكمدة"(10) وقال: "طهروا قلوبكم من الحقد فإنه داء موبي‏ء"(11) وفي المحاسن عن علي بن الحسين عليه السلام، قال: قال موسى بن عمران عليه السلام: يا رب من أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك يوم لا ظل إلاَّ ظلك؟ قال: فأوحى اللَّه إليه: "الطاهرة قلوبهم..." وفي غرر الحكم "قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر اللَّه فمن طهر قلبه نظر إليه".

* المقام الجوارحي أو الجسدي الظاهري:
وهو صورة الظاهر المؤلَّفة من مجموع الجوارح التي بها يتم العمل الصالح استجابة لأوامر الباطن قال اللَّه تعالى:﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (الأحقاف: 19)، وهو المركب الذي يسير به العبد لتوطيد العلاقة وتثبيتها مع اللَّه تعالى، وهو مقام التنزل لعالم التجلي، فكما أن اللَّه تعالى ظهر لمخلوقاته بعالم التجلي والظهور في مرآة الخلق، فكذلك يكون ظهور الأعمال من العبد فهي مرآة لحقيقة باطنه "أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه"(12).

ومن هنا فإن كل عمل يبدأ من النية إذ أنها هي التي تشكل حقيقة العمل وتحوله إلى عمل صالح "الأعمال مشروطة بالنيات والنيات بالقربات ولولاها كانت صوراً بلا معنى" قال اللَّه تعالى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه (فاطر: 10) فبالنيَّة يصبح الطعام والشراب عبادة والنوم عبادة والكلام عبادة وهكذا يصبح العبد عبداً إلهياً في كل تصرفاته وأفعاله والروايات والأحاديث في ذلك لا تحصى فمنها "من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما انصرف وليس بينه وبين اللَّه ذنب" ومنها "صلاة الجماعة فإنها محل نظر اللَّه تعالى" ومنها "اللَّه اللَّه في الزكاة فإنها تطفي‏ء غضب ربكم" ومنها "الصوم لي وأنا أجزي به" ومنها "الجهاد سياحة أمتي في الجنة" ومنها "مجالس العلم روضة من رياض الجنة" ومنها "كثرة البكاء من خشية اللَّه، يبني اللَّه بكل دمعة ألف بيت في الجنة" ومنها "إعانة المؤمن وقضاء حاجته فإنها إعانة اللَّه تعالى" ومنها "زيارة المؤمن فإنها زيارة اللَّه في عرشه" ومنها "مجالس العلم والعلماء فإنها روضة من رياض الجنة" ومنها وأعظمها شأناً "ولاية أهل البيت عليهم السلام فهي مفتاح الأعمال والباب الذي منه يؤتى اللَّه تعالى".

لكل عمل من الأعمال طريق من الطرق توصل إلى معالم القرب، فابحثوا عنها ادخلوها واعرفوا إن الشاهد هو الحاكم "أو لم يكفِ بربك أنه على كل شي‏ءٍ شهيد".


(1) الأربعون حديثاً.
(2) الشامخ: مقام العارف الذي يجمع بين الوحدة والكثرة فيرى بعينه اليمنى الحق وبعينه اليسرى الخلق. ولذلك كان مسلكه قدس سره خدمة الحق بصورة الخلق.
(3) ص‏35.
(4) تفسير الصافي، ج‏1، ص‏35.
(6 5) نهج البلاغة.
(7) مجمع البحرين، ج‏4، ص‏331.
(8) الآداب المعنوية للصلاة.
(11 - 10 - 9) غرر الحكم.
(12) غرر الحكم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع