الشيخ حسين كوراني
رغم التشابك بين معنى العبادة ونظائرها واللوازم، فإن ما تجمع عليه مصادر اللغة أن العبادة هي الطاعة، وعندما يكون الحديث عن طاعة الإنسان الذي يمتاز على سائر المخلوقات بمدى صعوبة امتحانه في "الإختيار" فنحن أمام الحديث عن طاعة باختيار يعبَّر عنها بالعبادة، وسيتضح أن أعلى مراتب الطاعة يتنافى مع المصلحية، ومع أدنى مراتب الكراهية والإستثقال.
وهنا سؤالان:
1- أي سر في العبادة، جعلها الهدف من خلق الإنسان الذي هو أفضل المخلوقات ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾؟
2- وهل تنحصر العبادة بما نفهم عند سماع لفظها، من القيام بأعمال عبادية؟
تستدعي الإجابة على ذلك التأمل في المحاور التالية:
1- العبادة والعقل. 2- العبادة والمعرفة. 3- العبادة والجمال. 4- العبادة والحب. 5- العبادة والقانون.
وما يمكن تسجيله في هذا المختصر هو الآتي:
1- يحكم العقل بالرجوع إلى من ينبغي الرجوع إليه، وطاعة من له الطاعة:
في دعاء للإمام السجاد عليه السلام: "اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكلي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج إلى رزقك وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك، ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه، وضِلَّة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناسٍ طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم (حزم) حازم وفقَّهه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت يا مولاي دون كل مسؤول موضع مسئلتي، ودون كل مطلوب إليه وليُّ حاجتي"(1).
2- لا طاعة بدون قناعة، ولا قناعة بدون معرفة، وهو ما يعني توقف العبادة على المعرفة، وتناسبها الدائم معها، فبمقدار ما تكون تكون. ومن هنا "فسَّر المفسرون ليعبدون، بقولهم ليعرفون"(2).
3- بمقدار ما هو الفرق هائل بل لا مجال معه للمقارنة، بين عالم المعنى وعالم اللَّفظ، بين الواقع الموضوعي وبعض تجلياته الدنيوية المحدودة جداً، كذلك هو الفارق الهائل جدا بين جمال الباطن وجمال الظاهر. ومن يحجبه ملمس الحية عن سمِّها الناقع، ليس إلا ذرة في بيداء ممن يحجبه جمال الظاهر عن قبح الباطن، أو قبح الظاهر عن جمال الباطن. إذا اجتمع الجمالان فأنعم وأكرم، ولكن القيمة العليا للباطن، بدليل أنهما إذا افترقا يمَّمنا وجه القلب شطر القيمة العليا التي نحب : جمال الباطن. ومن يحجبه جمال سرابٍ لا يدوم، عن معدن الجمال والعظمة، فهو المشدود إلى الكثرة وبهارجها، والمادة وزخرفها، الذي لن يستطيع التفاهم مع لغة: "ما رأيت إلا جميلاً"(3) وتشتد غربته بالتالي عن لغة: "اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله، وكل جمالك جميل. اللهم إني أسألك بجمالك كله"(4).
وأنَّى لمن بَعُدت عليه الشقة فلم يدرك مثلاً جمال الصدق وقبح الكذب، واستهواه بريق الكاذبِ الخادعُ، فأسلس له القياد حتى "العبادة"، أن يفقه من هذه اللَّغة حرفاً! ولا سبيل إلى ذلك إلا بترك المعاصي، ولذلك فنحن محجوبون "اللهم أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك".
4- وكما هو التناسب أبداً بين المعرفة والطاعة، كذلك هو أبداً بين الطاعة والحب، فمن أحب تفانى في الطاعة بحجم الحب، ومن أطاع دون أن يستشعر قلبه الحب فطاعته مصلحية نفعية، فهو عبد نفسه وليس عبد ربه، إنها شلو طاعة، وليس إطلاق الطاعة عليها إلا من قبيل إطلاقها على طاعة العبيد أو التجار. وعندما تُقبل فإن ذلك فيض رحمة، علَّها تشكِّل درجة في سُلَّم الطاعة الحقيقية. "وهل الدين إلا الحب"(5)؟ يسري حب الله تعالى في جميع شغاف القلب وذرات الكيان، وأوصال الزمان والمكان والعلائق، فإذا قلب العارف ينبوع حب. ومن عرف استهواه سحر الجمال فأحب، ومن لم يحب فلأنه لم يأت البيوت من أبوابها، وشتان بين الضيف وبين قاطع الطريق على نفسه أو عليها وعلى المريدين، ولا حل إلا بالوقوف بباب أهل البيت، فأهل مكة أدرى بشعابها. عندهم وحدهم الحل، "فمن أراد الله بدأ بهم"، وهم سفن النجاة ومصابيح الهدى، "ومن وحَّده قبل عنهم"(6)، والقانون هو المنهج العملي الذي حددوا معالمه وأرسوا دعائمه، فمن سار على الدرب وصل.
5- العلاقة بين العبادة والقانون، هي تواضع الجاهل للعالم، واعتراف المخطيء بالصواب، وإقرار الفقير بفقره، وخضوع العاقل للحق الذي حملته الغفلة على تجاوزه، ويجمع الكل: الإنقياد للعقل والتزام حكمه الفصل، فهو المقياس وهو الذي يأخذ بيد القلب إلى المختص بالقانون، ومعه تبدأ رحلة المعرفة ولوازمها، بخضوعها للقانون ترتفع الهام إلى عليين، وبالتعالي عليه تهوي إلى أسفل سافلين، والقانون هو فيض الحق وتحديده ما ينبغي وما لا ينبغي، ليدور العقل والقلب مع الحق حيثما دار، فما عداه الباطل. ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (يونس: 32).
تتماهى روائع العقل والمعرفة وسحر الجمال وترانيم الحب وفريدة القانون العصماء، فترسم لوحة قرار الانتماء إلى موكب النور المحمدي، ليأخذ القلب موقعه في مدار منظومة المعصومين الأربعة عشر " وكلهم نور واحد"، ويترجَم هذا القرار إلى عمل عبر طلب الانتساب إلى قافلة النور هذه "يخرجهم من الظلمات إلى النور" وهو طلب يحمل توقيع القلب الذي هو عقد القلب على وثيقة إلهية تقول: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، وتؤكد ذلك: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: 80)، وتحدد آلية الطاعة: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23). ولا يُثبت توقيع القلب هذا إلا الإنتماء، أما صدق الإنتماء وحسن الإسلام وعدم ازدواجية الولاء، فلإثباته طريق آخر، هو مدى التزام القانون الذي هو ثمرة العقل والمعرفة واستشعارِ الجمال والحب، والنجاح في امتحان مصداقية الإدعاء فيها، والقانون الإلهي هو: حدود الله تعالى، المعبَّر عنها بالشريعة والفقه والأحكام الخمسة والرسالة العملية لا فرق. ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ (البقرة: 229)، ولا يمكن التزام القانون الإلهي وعدم تعدي حدوده تعالى، إلا ببناء عقيدي، تظهر ثمرته في الفعل والسلوك، لتمكِّن من الانضباط وعدم التجاوز، وهذا البناء الأساس، والمبني عليه من مسلكية ودرجة التزام القانون، هما معاً ما نعرفه باسم: العبادة.
ومن الواضح أن مخالفة القانون متفاوتة، وللقانون الإلهي حِمىً يحسُن عدم تجاوزه، هو المستحبات والمكروهات، إلا أن تجاوزه لا يشكِّل مخالفة تستتبع العقوبة، لكنه نذير اقترابٍ من مرحلة الخطر، كما أن عدم تجاوزه بشير الحركة خارج دائرة الخطر، والمراس فيها زيادة تحصين، وذلك من خصائص واقعية التقنين التي لا يمكن أن تصدر إلا من اللطيف الخبير. وهنا يأتي موقع السؤال الثاني: هل تنحصر العبادة بالأعمال العبادية كما نفهم؟ وقد اتضح مما سبق أن المحور في العبادة هو بناء النفس في هدي العقل، لينتظم أمير الجوارح القلبُ في خطه، وتتحقق الشخصية السّلم: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ (الزمر: 29)، ومن دون هذا البناء العقيدي والأخلاقي، تتحول العبادة إلى ما يشبه الشعار الذي يرفعه مزدوج الولاء متظاهراً بأنه من هذا السرب.
وفي ضوء ما تقدم يمكن فهم المفاصل التالية:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أفضل العبادة الفقه"(7). والفقه هو الفهم وهو رهن إدراك الواقع، وهو التوحيد.
2- وعنه صلى الله عليه وآله: "من أتى الله بما افترض الله عليه فهو من أعبد الناس".
3- عن الإمام الصادق عليه السلام: "أفضل العبادة العلم بالله والتواضع له".
4- وعنه عليه السلام: "أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته".
5- عن الإمام الكاظم عليه السلام: "ما عبد الله بشيء أفضل من العقل".
6- عن الإمام الرضا عليه السلام: "ليست العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله".
ولا تذهبن بنا المذاهب فنريح أنفسنا من العبادات والذكر والورد بادعاء أنا بذلك من أنصار "أفضل العبادة" فليس هذا هو الفقه السليم لهذه النصوص، بل إنها جميعاً وما شابهها تريد أن لا يشغلنا الطريق عن الهدف، ولا تصرفنا الكثرة عن التوحيد وأن نأخذ بحظنا من العبادات بالمعنى المتعارف ونحن نشد الرحال إلى العبادة الحقيقية، التي لا يمكن الوصول إليها عادة إلا بدخول مدرسة المستحبات وترك المكروهات، ولكن الفرق كبير بين الطالب الذي يرى المدرسة الغاية وبين من يراها الوسيلة.
من رأى العبادات بالمعنى المتعارف الغاية، فقد يكون مصداق قول أمير المؤمنين عليه السلام: "رب متنسك ولا دين له"!!(8) ومن اعتبرها الوسيلة والعامل المساعد، وعلى الله قصد السبيل، فهو مصداق قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. يؤكد هذه الحقيقة ما يلي:
1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "خذوا من العبادة ما تطيقون، فإن الله لا يسأم حتى تسأموا".
2- عن الإمام الكاظم عليه السلام: "ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح الخطيئة بعد النسك، وأقبح من ذلك العابد لله ثم يترك عبادته".
والنصوص المشابهة كثيرة جداً، تكاد لا تحصى. وليكن مسك الختام ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "خرج الحسين بن علي عليهما السلام على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يابن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته"(9).
(1) الإمام السجاد عليه السلام، الصحيفة السجادية 28 "متفزعاً إلى الله تعالى".
(2) ملا هادي السبزواري، شرح الأسماء الحسنى22 - 2.(المصادر بحسب نسخة برنامج المعجم الفقهي، الإصدار الثالث).
(3) ما قالته مولاتنا السيدة زينب عليها السلام، في مجلس ابن زياد لعنه الله تعالى.
(4) من دعاء البهاء.
(5) مروي عن الإمام الباقر عليه السلام. أنظر: البرقي(أحمد بن محمد بلن خالد) المحاسن 262 - 1. والكليني، الكافي 80 - 8.
(6) من الزيارة الجامعة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام.
(7) أنظر فيه وفي ما بعده من النصوص: الريشهري، الشيخ محمد محمدي، ميزان الحكمة 1801 3، فما بعدها.
(8) المصدر 1806.
(9) الفيض الكاشاني، التفسير الصافي 75 - 5.