الشيخ محمد توفيق المقداد
قال اللَّه تعالى في محكم كتابه ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾(المائدة: 55). تدل هذه الآية المباركة على أن الولاية هي للَّه سبحانه وتعالى أولاً ثم لرسوله صلى الله عليه وآله ثم للأئمة عليهم السلام من بعده، ولكن بما أن الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عجل الله فرجه قد غاب، فكان لا بد من أن ينوب عنه من يتولى إدارة شؤون الأمة وهذا ما اصطلح على تسميته في الفقه عندنا بـ"ولاية الفقيه" والذي يجسدها هو "الولي الفقيه".
وعلى هذا فمسألة الولاية ليست جديدة كما قد يتوهم البعض وإنما هي من تشريعات الإسلام الأساسية والأصيلة، ولذا يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال "الذين يقولون إنه لا يوجد عندنا في الإسلام ولاية للفقيه، ليسوا مطَّلعين ما داموا يقولون هذا، إن ولاية الفقيه كانت وما تزال مند زمن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وحتى الآن" ويقول أيضاً: "إن ولاية الفقيه هدية قد أعطاها اللَّه تبارك وتعالى للمسلمين".
* جهات البحث في ولاية الفقيه
ومن الواضح أن لولاية الفقيه جهتين في البحث:
1- الجهة العقائدية: والتي تعني أن ولاية الفقيه مستمدة شرعيتها من ولاية الإمام المعصوم عليه السلام المستمدة بدورها من ولاية رسول اللَّه صلى الله عليه وآله المستمدة بدورها بالتالي من ولاية اللَّه وتوحيده في الولاية، ومن هنا نشأت مسألة وجوب الطاعة للفقيه كما ورد في العديد من الأحاديث الدالة على إن الراد على أمر الفقيه كالراد على الإمام المعصوم عليه السلام، الراد على الإمام المعصوم كالراد على اللَّه وهو على حد الشرك باللَّه كما قال الإمام الصادق عليه السلام.
2- الجهة الفقهية: والتي تعني حدود صلاحيات الولي الفقيه، فهل هي مقتصرة على القضاء والإفتاء، أو تشمل بالإضافة إليهما الأمور الحسبية وهي الأمور التي لا يرضى الإسلام بتركها وإهمالها كالحقوق الشرعية والولاية على غير البالغين والمجانين والأوقاف وما شابه ذلك، أو تشمل مضافاً إلى ذلك الولاية على إقامة الحدود الشرعية كحد القتل والزنا والسرقة وما شابه أيضاً، أو أنها ولاية عامة وشاملة كولاية المعصوم نبياً كان أو إماماً إلا ما خرج بالدليل على عدم كون الفقيه ولياً عليه؟ وقبل تحديد رأي الإمام الخميني المقدس في هذه المسألة لا بد من الإشارة إلى أن كل الفقهاء يقولون بثبوت الولاية للفقيه سواء بعنوانها الأولي أو بالعنوان الثانوي، لكنهم يختلفون في حدود الولاية "سعة وضيقاً".
* الأدلة على ثبوت الولاية للفقيه
ومن المعلوم أن الحكومة التي تدير شؤون المجتمع ضرورة اجتماعية لا بد منها وإلا ساد الهرج والمرج والاختلال حياة الناس وتحولت إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف وتضيع الحقوق وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية والسلوكية، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "لا بد للناس من إمام، بر أو فاجر". وقد استدل الإمام الخميني قدس سره على إثبات الولاية للفقيه وصلاحياته بثلاثة أنواع من الأدلة هي:
أولاً: ما قام به النبي صلى الله عليه وآله من تشكيل لأول حكومة إسلامية عند هجرته إلى المدينة المنورة.
ثانياً: إن أحكام الإسلام مطلقة لا تختص بعصر المعصومين عليهم السلام وإنما هي صالحة لكل زمان ومكان.
ثالثاً: إن الكثير من الأحكام الإسلامية لا يمكن تطبيقها وتنفيذها إلا إذا كان هناك حكومة إسلامية كالأحكام المالية والقوانين الجزائية وأحكام الحرب والسلم وما شابه ذلك.
* رأي الإمام الخميني
ومن هذه الأدلة نفهم أن الإمام الخميني قدس سره يقول بالولاية المطلقة للفقيه كما كانت للنبي صلى الله عليه وآله والإمام المعصوم عليه السلام. ومن المعلوم أن أحكام الإسلام لا تختلف من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، في زمن الغيبة حيث الولاية للفقيه العادل العالم بالإسلام وفق الشروط التي اشترطها المشرِّع للولي الفقيه. وفي هذه الجهة يقول الإمام الخميني قدس سره: "... فالفقهاء أمناء الرسل" يعني أن الفقهاء العدول مكلَّفون ومأمورون بالقيام بجميع الأمور التي كانت في عهدة الأنبياء، يقومون بتنفيذ أحكام الإسلام، وإقرار نظمه، وإقامة الحدود، وتنفيذ القصاص، وحراسة حدود الوطن الإسلامي وكافة أراضيه، واستلام الأخماس والزكوات والصدقات وأجزية والخراج وصرفها في مصالح المسلمين...
* صلاحيات ولاية الفقيه
يقول الإمام الخميني أيضاً: "بما أن الفقهاء أمناء في اجراء الأحكام... فلا يجب أن يتركوا قوانين الإسلام معطَّلة، أو يسمحوا بأن يزاد فيها وينقص، إذا أراد الفقيه إقامة حد الزنا على الزاني، فيجب أن يقوم بذلك بالشكل المحدد، فيأتي به أمام الناس ويجلده مائة جلدة، فلا يحق له أن يضربه ضربة إضافية، ولا أن يفحش له بالقول، ولا أن يصفعه أو يحبسه يوماً واحداً". ثم يردف الإمام الخميني قدس سره فيقول: "الحاكم في الحقيقة هو القانون، والجميع في كنف القانون وأمانه، والشعب والمسلمون أحرار ضمن دائرة الأحكام الشرعية، أي بعد أن يعملوا طبق المقررات الشرعية، عندئذ لا يحق لأحد أن يتحكم بتصرفاتهم، إذ لا مجال لشيء من هذا، فلهم حريتهم، وهكذا تكون حكومة العدل الإسلامية، فهي ليست كتلك الحكومات التي تسلب الناس والشعب الأمن، وتجعل الناس يرتجفون في بيوتهم خوفاً من مفاجآتها وأعمالها، كما كان الأمر في حكومة معاوية وأمثالها من الحكومات...".
وعليه فتكون النتيجة عند الإمام الخميني قدس سره أن: "معنى الأمين هو أن يقوم الفقيه بتطبيق جميع مقررات الإسلام على نحو الأمانة، لا أن يقوم ببيان الأحكام فحسب، فهل كان الإمام المعصوم عليه السلام مجرد مبيّن للأحكام والقوانين فقط؟ وهل كان دور الأنبياء مقتصراً على بيان الأحكام ليكون الفقهاء أمناءهم في ذلك فحسب؟ لا شك أن بيان المسائل والقوانين من جملة الوظائف الفقهية، لكن الإسلام ينظر للقانون نظرة آلية، أي يعتبره وسيلة من وسائل تحقيق العدالة في المجتمع، ووسيلة للإصلاح العقائدي والأخلاقي وتهذيب الإنسان، إنما الغاية من القانون هي إقامة وتطبيق الأنظمة الاجتماعية العادلة، وذلك بهدف تربية الإنسان المهذَّب، لقد كانت الوظيفة المهمة للأنبياء هي تطبيق الأحكام والإشراف وإدارة الحكومة".
ثم ينتقل الإمام الخميني قدس سره إلى نقطة أخرى فيقول عندما لم تسمح الأوضاع للفقهاء باستلام الحكومة اندرست أحكام الإسلام وتعطلت: "إن الفقهاء يجب أن يكونوا رؤساء الأمة، لكي لا يسمحوا باندراس الإسلام وتعطيل أحكامه، وبما أن الفقهاء العدول لم يقيموا الحكومة في البلاد الإسلامية، ولم تطبق، فقد اندرس الإسلام وعُطِّلت أحكامه، وتحققت كلمة الإمام الرضا عليه السلام وهي (لو لم يجعل لهم إماماً قيماً حافظاً مستودعاً لدرست الملة...)، وقد أثبتت التجربة صحة ذلك للجميع". ثم يقول الإمام الخميني قدس سره إن الصفتين الأساسيتين للفقيه هما "العلم بالقانون والعدالة"، ويصرح: "لو قام الشخص الحائز لهاتين الخصلتين بتأسيس الحكومة تثبت له نفس الولاية التي كانت ثابتة للرسول صلى الله عليه وآله ويجب على الناس جميعاً طاعته" ويقول: "فتوهم أن صلاحيات النبي صلى الله عليه وآله في الحكم أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام، وصلاحيات أمير المؤمنين عليه السلام أكثر من صلاحيات الولي الفقيه، هو توهم خاطئ وباطل، نعم إن فضائل الرسول صلى الله عليه وآله بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم، فنفس الصلاحيات التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام في تعبئة الجيوش، وتعيين الولاة والمحافظين، واستلام الضرائب وصرفها في مصالح المسلمين قد أعطاها اللَّه تعالى للحكومة المفترضة هذه الأيام عصر الغيبة غاية الأمر لم يعين شخصاً بالخصوص، وإنما أعطاه لعنوان العالم العادل".
ومن أراد الاستيضاح أكثر عن هذا البحث يمكن الرجوع إلى كتاب "الحكومة الإسلامية" للإمام قدس سره حيث شرح فيه نظريته للولاية والحكومة وكل ما يرتبط بهما من أبحاث