نسرين إدريس
حمل قنديلاً شحيح النور، وخرج يشقُ دامس الليل بنحول جسده حتى وصل إلى بابٍ خشبيٍ أرهقه الزمن حتى بان اهتراء جوانبه كإطار لنوائب فصول سنوات عديدة... فتحه ببطءٍ ليخفَّف قدر الامكان من أزيزه المزعج وعبر إلى باحةٍ صغيرة موحشة... مشى بتؤدةٍ وهو ينادي على أم محمود فتناهى إليه صوتها من الداخل تطلبُ إليه الدخول...
كانت الغرفة ضيِّقة، وهي تحاول أن تُهيِّىء له مكاناً ليجلس فيه قرب زوجها الذي أصابته رصاصة إسرائيلية خلال مظاهرةٍ في رفح أفقدته القدرة على السير، فلازم فراشاً رقيقاً في زاوية الغرفة... كنت مفكر ابني يوسف عندكم، شفتو أنا وراجع من الشغل هو ومحمود، ولهلق ما رجعوا، قلت بلكي بتعرفوا وينهم؟! أجابته أم محمود وهو ينفثُ دخان سيجارته كستارةٍ شفافة تتطايرُ على ضوء شمعةٍ صغيرة...
ما تخاف، هلق بيرجعوا... أبو محمود، إنتَ عارف انو يوسف ابني البكر، وبعدو بالتسعة عشر سنة... يا أبو يوسف، صرتْ قايلي هالموال مليون مرة... إذا ما بدك ابنك يطلع معك بمظاهرة عبكرا قعدلوا عَ باب الدار... يا ريت بقدر... بس مش رح يقنع يضل حد أمه واخواته... استأذن منهما وعاد كمن يتأبط شراً، ونار القنديل تكاد تلامس الانطفاء بين فينة وأخرى، فتح باب المنزل فوجد يوسف يجلس بالقرب من أمه التي تخيط له كوفيته الممزقة... دخل غاضباً وأخذ من بين أصابعها الكوفية، وألقى بنظراته الحادة على عيني يوسف الحزينتين... لوين بدك توصل؟ عَ نعش؟ واللاَّعِكَّاز؟ أو فرشة متل أبو محمود؟! بدي أوصل عَ بيتنا... بيتنا راح... دمروه... متل ما دمروا كل إشي حلو بحياتنا... يوسف... يوسف أنا خايف عليك... من شو؟! من الموت! يمكن! دلني على الحياة، وأنا بَعيشها... بس بشرط، تكون بفلسطين... لأني مش ناسي فلسطين، بدي إياك أنتَ تبقى... يوسف إذا أنا متت... أمك وأخواتك بحاجة إلك... إلهم أللَّه... يعني عَ بكرا رح تمشي بالمظاهرة؟!...
متلي متلك يا بييِّ... كانت الجموع الغفيرة المُلثم معظمها تجوب الشوارع والنداءات تعلو من كل مكان، ويوسف يمشي إلى جانب والده الذي ما فتىء يضعُ بكفِّه على كتف ولده ويشدُّ عليها... وصلت التظاهرة على مفترق طريق فانهالت عليها رشقات الرصاص من القنَّاصة الإسرائيليين، فرأى يوسف بعض الرجال يتهاوون، وساد هرج ومرج ما جعل يوسف ينظرُ إلى أبيه الذي غاب عن ناظريه تدريجياً، وراح الناس يواجهون الرصاص بالحجارة ومن بينهم يوسف الذي كلَّما رمى حجراً أرسل نظرة سريعة إلى الخلف ليرى والده فلا يجده...
قيت المواجهات عنيفة، حتى بدأ الغروب يلون الأصيل، وانتشرت الآليات الإسرائيلية على مفارق الطرقات لتحدّ من تجمّع الناس، وكان يوسف يتلطى من منزلٍ إلى آخر محاولاً الوصول إلى المنزل بعد فرض حظر تجول عاجل، عندما وجد نفسه خلف جندي إسرائيلي يصوّب سلاحه نحو رجلٍ يعبر الشارع راكضاً ليقنصه، وكان ذلك الرجل والده... فركض بجنون وألقى بنفسه على الجندي ليرديه أرضاً، فيما انتبه أبو يوسف لولده الذي ناداه من أعماق قلبه... أطلق جنديٌ آخر الرصاص على يوسف فأصابه في صدره، وكان أبو يوسف قد وصل إلى مقربة منه... أخذه بين ذراعيه، فيما استثار المشهد جموع الناس وأعادهم إلى الشارع للمواجهة، بينما أبو يوسف راح يمسح دم ولده عن صدره وقميصه، وركض به نحو المستشفى... بقي أبو يوسف يحملُ قميص ولده المبلل بالدم حتى أخبره الطبيب أن الخطر زال عن ابنه، وحالته تسمح له برؤيته... جلس بالقرب منه على السرير وسرعان ما أجهش بالبكاء...
رح يضلوا الديب ورانا يا بييِّ تياكلنا كلنا... أخذ القميص من يد والده... لما حسيت أنو دمك صفّى بين أيدي تمنيت الدنيا تخلص... هيدي مش أول مرة بِمُص إسرائيلي دمِّي.. شم يا بييِّ هالدّم، رح تلاقي ريحة كل فِلسطين فيه... علشان هيك لازم تبطل تخاف عليي، ورح ضلّ أطلع مظاهرات وقاوم، لحتى يفهم العالم انو دمي حقيقي مش كذب، وانو الدِّيب الإسرائيلي أكلني أكتر من مرة... ومن حقي أني اقتلوا... العالم مغمض عينو عنّا... بس اللَّه معنا... وعينوا علينا... ورح يضلوا لحمنا مرّ، ودمنا فوّار... بقي يوسف يقاوم، حتى أطبقَ الذئبُ أنيابه عليه ذات نهارٍ حزين، غير أن دمه الفلسطيني بقيَ في الجُبِّ الذي تسقي منه قوافل المجاهدين روح الثورة في نفوس أبنائها لتنتصر، ولو بعد حين...