الشهداء: سمير مطوط، أحمد شمص، محمد نعمة يوسف، حسن شكر،
محمد حسونة، عاصي زين الدين، محمود يوسف، أسعد برو، جعفر المولى. البوارجُ الحربية
تجوب أفقَ بحرٍ ملونٍ بأحلام العابرين على شطآنٍ هي ملجأ شكوى الحُزانى والمتحيرين
الصامتين...
وحده عميقُ البحر أمين أسرارهم التي تبتلعها أمواج ما إن تنثر رذاذها
على الرمال حتى تحملُ أذيالَ مياهها وتغوص تحتَ أمواجٍ جديدة أنجبتها الرياح التي
طالما داعبت أحلامهم الفتية وهم صغار يركضون على رمال الشاطىء بأقدامهم الحافية...
تلك الأمواج التي صارعتْ زنودهم الشابة المشتد عظمها تعرفُ صلابتهم أمام عتوِّها،
والعزيمة الصلبة على جباههم السمراء تلوح كلما أشرقتْ الشمسُ، وكلما شهر الأصيل
حمرة سيفه ليغمده في خاصرة البحر... هم عشرة من أبناء البحرِ، كانوا صغاراً حين
جلسوا على رماله الساخنة وغرزوا أكفهم الصغيرة بين الحبيبات ليرسموا دائرة من أكفهم
لتكون عهداً لصداقةٍ ولدت في زمن حرٍّ، وعندما كبروا صار الدّم بصمة الوفاء لها...
هم دائماً كانوا هناك، لم تمنعهم البوارج ولا الطائرات الحربية، ولا الدبابات
المنتشرة في زوايا الطرقات من أن يلامسوا كل يوم رذاذ بحرهم؛ فهذا البحر وطنهم،
إليه ينتمون... لم تمحو الأمواج تلك الأصابع الصغيرة، بل أمعنت في تخليدها أكثر؛
ربما لأن البحر صار يرى في أطرافها جزءاً لا يتجزأ من تاريخه... تاريخه المشرّف
المكتوب بنسيجٍ من جراحات أجسادهم التي غادرته بعد أن انتزعت من على صفحاته طحالب
القهر واليأس...
بعد كل تلك السنوات، الأفق الجميل تخترقه من حين لآخر أجنحة النوارس، والشاطىءُ
الهادئ هدوء نسيم الربيع يغفو بين تقلبات الأمواج الخفيفة، التي تحكي حكاية عهد
العشرة: تسعة منهم رحلوا، وبقي العاشر وحيداً قرب دائرةٍ من أصابعَ صغيرة والبحرُ
أمامه يمزقُ رداء وحدته الموحشة... وحيد مع بحرٍ من الأسرار، وزمنٍ مثخنٍ بذكريات
تدمي فؤاده، فؤاده الذي كلما بحث عنه وجده على صخرة يصطادُ من الماضي فتاتاً تلقّمه
بعض معاني الحياة التي تركوها إرثاً ثقيلاً بين يديه، والشفاه تتمتم: هوَّن ما نزل
به أنه بعين اللَّه... عين اللَّه التي أنارت قلوبهم في ظلام مطبقٍ فمشوا طريق
الحقيقة بيقين لا يبالون به "أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم"...
عين
اللَّه التي جمعتهم في مسجد الأوزاعي ليتعاهدوا على المضي قدماً في طريق الجهاد،
والعهدُ شهادة... عشرة مذ لاح ربيع العمر بين أكفهم كانت البندقية عشباً افترش
الأيام ببساط الرصاص والكفاح، وصار الليلُ الحالم بريقاً في أعينهم الساهرة تراقب
جنود الجيش الإسرائيلي لتقنصه من بين ترساناته... اخطبوط الحرب المخيف التهم المكان،
حوّله إلى بقعة مشوّهة، حتى البحر صار رذاذاً خالياً من الأحلام، لكن الحياة بقيت
بين أصابعهم، يقبضون عليها جمراً ويضغطون، ما كان أجلدَهم على ضغط الجراح، ما كان
أجلدَهم على تحمّل الأوجاع وهم يبتسمون... كانوا يتحينون فرص الالتحاق بعملية
هنا، أو كمين هناك... منهم من صار قائداً لمجموعة في المقاومة الإسلامية، ومنهم من
صار مقاتلاً، والعهد بقي عهداً...
عشرة كانوا وردة الحياة النابتة في حوض اليباس... وردةً انفرطت أوراقها واحدة تلو
الأخرى لتجعل التربة أكثر خصوبة، ولتصبح التشققات طريةً من لهيب الدم المنساب منها...
تسعة قضوا شهداء والعاشرُ لامس تباشير النصر بأنامله الراسمة لتلك الدائرة من
الأصابع على الشاطئ... لا تزال ملامح وجوههم الشابة تطوف في زوايا المكان... تلامس
أروقة الزمان، الزمن الذي يحكيهم حكاية "عهد العشرة" الذين شهروا سيوفهم بوجه الظلم،
وقدموا أرواحهم ليبقى الوطن حراً مصاناً،
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا
بَدَّلُوا تَبْدِيلًا
﴾..