أديب كريم
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يجري الحديث
فيها عن التعاون النازي اليهودي قبل وإبَّان الحرب العالمية الثانية بل إنّ هذه
القضية كانت كغيرها من قضايا المسألة اليهودية محطَّ اهتمام مبحثي وتحقيقي من قبل
العديد من الباحثين الغربيين والعرب.
وكما كشفت سنوات ما بعد الحرب عن بعض جوانب
وخفايا تلك القضية، فإن المستقبل يكفل لكل مهتم بهذا الشأن إزالة الستار عن الجوانب
المكمّلة للمشهد المذكور. ومن هذا المنظور، فإننا نزعم أنَّ مقالتنا هذه ما هي إلا
محاولة متواضعة في سياق المحاولات المبذولة لإبقاء الضوء مسلَّطاً على الأحداث
المفصلية الحقيقية في التاريخ اليهودي والتي تحاول الجماعات اليهودية، بموازاة ذلك،
التعتيم عليها من خلال أساليب التضليل والتزوير والخداع. والسؤال الذي نحن بصدد
الإجابة عليه في هذه العجالة، متى وكيف بدأت قصة التعاون النازي اليهودي وفصول
التطور الدراماتيكي لهذا التعاون، خصوصاً خلال ما عُرف بواقعة "الهولوكوست"؟ بداية
التعاون النازي اليهودي: لقد سبق وتطرقنا في مقالة سابقة إلى التماثل القائم فكرياً
ونظرياً بين اليهودية والنازية، وخصوصاً لجهة القول بالنقاء العرقي والتميّز
القومي، ومن الثابت وفق النصوص المتوافرة أن العلاقة بين الطرفين شهدت تطوراً
علائقياً جدلياً واضحاً ترك بصماته وآثاره على أحداث منتصف القرن العشرين فكما كانت
أدبيات وخطابات النازيين تُظهر تأثيرها بالموروث التوراتي والتلمودي، وتحذو حذوها
في انتقاء المفردات والتعابير العنصرية المتشدّدة، بالمقابل لم يخفِ اليهود إعجابهم
بالظاهرة النازية ولم يتوانوا عن التعاون السري والعلني مع رموزها وأقطابها.
فبعد وصول أدولف هتلر إلى سدَّة الحكم في ألمانيا في العام 1933 "أصدرت المنظمة
الصهيونية الألمانية إعلاناً رسمياً جدّدت فيه طبيعة علاقة الصهاينة بالنظام النازي
بشكل واضح لا إبهام فيه، وقد اتخذ الإعلان شكل مذكرة أُرسلت مباشرة إلى الحزب
النازي وهتلر، وتم من خلالها تجديد المقولات المشتركة بين النازيين، والصهاينة".
ومن تلك المقولات الأساسية أن اليهود العاديين في ألمانيا خصوصاً وأوروبا عموماً
بدأوا يميليون إلى إهمال جذورهم التاريخية وتقاليدهم الحضارية وخصوصياتهم المتميزة،
ويعرضون عن فكرة العودة إلى "أرض الميعاد" ومن هنا بات العمل على زعزعة أوضاع
اليهود العاديين في ألمانيا ودفعهم إلى تبني الأفكار الصهيونية محور التعاون السرّي
بين النازيين والصهاينة من اليهود، وقد اتخذ هذا التعاون أشكالاً عديدة نذكر منها،
على سبيل المثال، التعاون الاقتصادي الذي تمثل في توقيع اتفاقية سرية بين بنك
الدولة في ألمانيا "ريخسبنك" والوكالة اليهودية في السنة 1933، والتي قامت الحكومة
النازية بموجبها بمنح نسبة مئوية من ثمن البضائع التي كانت تصدّر إلى فلسطين إلى
اليهود الميسورين الذين تركوا ألمانيا وهاجروا إلى "أرض الأجداد" وذلك كتعويض لهم
عن ممتلكاتهم التي تحولت إلى الحكومة الألمانية، وكانت الوكالة اليهودية هي من
يتولى تسويق وبيع تلك البضائع. وقد استطاع اليهود عبر هذه الاتفاقية السرية،
والتي أسميت بالكلمة العبرية القديمة "خافارا" أي (الرفقة التجارية)، أن يجنوا خلال
ست سنوات فقط رأسمالاً ضخماً قُدِّر في ذلك الحين بحوالي 139 مليون مارك وُظِّف
معظمه في انتزاع الأراضي من الفلسطينيين العرب.
وأخطر ما تضمنت تلك الاتفاقية البند السري "الذي كانت القيادة النازية توافق
بموجبه على تسليم الصهاينة سراً الأسلحة الرمادية والقنابل اليدوية والرشاشات وغير
ذلك من الأسلحة من المستودعات التي استولى عليها الهتلريون في العام 1938 في
النمسا... الأمر الذي أتاح تسليح الجيش الصهيوني السري من "هاغانا" وفصائل
"أرغون تسفاي ليومي" و"ليحي" الإرهابية التي ترأسها مناحيم بيغن وإسحاق شامير فيما
بعد". وبالمقابل تثبت الوثائق "أن النازيين كانوا يتلقون مساعدات مالية ضخمة من
البنوك والاحتكارات الصهيونية، ساعدتهم بشكل فعَّال في الوصول إلى السلطة، فعلى
سبيل المثال ثبت أن النازيين قد تسلموا عام 1929 مبلغ 10 ملايين دولار من بنك
"مندلسون أند كومباني" الصهيوني في امستردام، كما تلقوا عام 1931 مبلغ 15 مليون
دولار، وفي عام 1933 بعد وصول هتلر للسلطة، كان أول ما أرسله له الصهاينة مبلغ 126
مليون دولار، ولا شك أن هذه المساعدات كانت عوناً للنازيين من المنظمات الصهيونية
العالمية لبناء قوتهم العسكرية والاقتصادية اللازمة لاجتياح أوروبا، وإبادة
الملايين من البشر، ومن بينهم اليهود، وهو ما اعترف به "ناحوم جولدمان" في كتابه
"السيرة الذاتية ويفهم من كل ما تقدم أن اليهود المتنفذين (الصهاينة) بالتعاون مع
النازيين قد أرسوا قواعد لعبة خفية هدفت إلى ترحيل الآلاف من اليهود إلى أرض
فلسطين.
ولهذه الغاية، عمدت الحكومة النازية إلى تأسيس القسم الخاص المتفرع عن
أجهزتها الأمنية والمرمز بـ(11 - 112) والمسمى "قسم الشؤون اليهودية برئاسة
الألماني فيلد نشتين". وهذا القسم افتتح في برلين "بموجب اتفاقية سرّية مع الوكالة
اليهودية ودائرة شؤون المهاجرين اليهود" الذين يُختارون من أصلح مئات الألوف من
اليهود الألمان من الناحيتين المادية والسياسية لارسالهم إلى فلسطين. وقد هاجر من
ألمانيا إلى فلسطين أكثر من 60 ألف يهودي بين السنتين 1933 و1938. ومن باب ترغيبهم
قبل الترحيل كتبت إحدى الصحف الألمانية "لم يعد بعيداً الزمن الذي تستطيع فيه
فلسطين من جديد أن تستقبل أبناءها الذين تاهوا منذ أكثر من ألف سنة... فلترافقهم
تمنياتنا مع بركة الدولة".
التضحية بالأطفال اليهود من أجل حلم زائف:
"لو عرفت أن من الممكن إنقاذ كل أطفال يهود ألمانيا بتوصيلهم إلى انجلترا، مقابل أن
أنقذ نصفهم وأنقلهم إلى فلسطين، فإني أختار الحل الثاني، إذ يبقى علينا أن نأخذ في
اعتبارنا، لا حياة هؤلاء الأطفال وحسب، كذلك تاريخ شعب إسرائيل". هذا الموقف
الخطر الذي أطلقه الزعيم اليهودي "ديفيد بن غوريون" في ثلاثينيات القرن الماضي
يضعنا أمام حقيقة وخلفية ما جرى في الحرب الكونية الثانية وخصوصاً بشأن قضية
الهولوكوست، حيث أن "بن غوريون" لا يخفي استعداده للتضحية بنصف أطفال يهود ألمانيا
من أجل تحقيق الحلم الزائف في وطن قومي يهودي مزعوم. وفي العودة إلى بداية ظهور
بوادر الحرب الثانية وتحرك الهتلريين في الداخل والخارج فإن الوثائق تؤكد أن اليهود
لم يبدوا أي نوع من أنواع المقاومة للنازية على الرغم من الفرص الكثيرة والامكانات
العديدة التي كانوا يتوافرون عليها، ومنها المالية والإعلامية في ألمانيا مثلاً،
والعددية السكانية الكثيفة في أوروبا الشرقية (بين ثمانية وعشرة ملايين يهودي).
والسبب في ذلك يعود إلى أن المتشددين اليهود لم يكونوا ملتزمين بالمقاومة ضد
النازية التي اعتبروها العصا المحركة للجمر تحت رماد الواقع اليهودي الساكن، حتى
ولو أدى ذلك إلى التضحية بقسم منهم في مقابل تهجير القسم المتبقي إلى "أرض الميعاد"
ولنا أن نقرأ ما صرح به "إسحاق جردنباوم" رئيس لجنة الانقاذ بالوكالة اليهودية أمام
اللجنة التنفيذية الصهيونية في 18 شباط 1943 قائلاً أنه لو سئل إن كان من الممكن
التبرع ببعض أموال النداء اليهودي الموّحد لانقاذ اليهود فإن إجابته ستكون "كلا ثم
كلا" وأضاف: "يجب أن نقاوم هذا الاتجاه نحو وضع النشاط الصهيوني في المرتبة
الثانية... إن بقرة واحدة في فلسطين أثمن من كل اليهود في بولندا"!! "وبن غوريون"
هو الآخر يضيف إلى ما ذُكر آنفاً في 7 كانون الثاني 1937 أنه "إن استولت الرحمة على
شعبنا ووجه طاقاته إلى انقاذاليهود في مختلف البلاد، فإن ذلك سيؤدي إلى شطب
الصهيونية من التاريخ".
اعترافات موثّقة حول الهولوكوست: يقول
العارفون من أهل الحكمة أنك قد تستطيع أن تكذب على كل الناس بعض الوقت، أو تكذب على
بعض الناس كل الوقت، لكنك لن تستطيع أن تكذب على كل الناس كل الوقت، واليهود في
قضية "الهولوكوست" حاولوا فعلاً أن يمهدوا أكاذيبهم على كل الناس كل الوقت، وأن
يتاجروا بدماء ضحاياهم الذين هم أنفسهم سببوا في فنائهم، غير أن أكاذيبهم تلك لم
تصمد أمام الحقائق التي تكشفت من خلال مواقف وتصريحات واعترافات العديد من
المراقبين. ونبدأ بما جاء على ألسنة شخصيات يهودية سياسية وإعلامية ومن فمك
أدينك ومنهم النائب السابق في الكنيست اليهودي والمعلِّق السياسي "يوري أفنيري" حيث
قال: "إن اهتمام الحركة الصهيونية وقت وقوع المحرقة لم يكن موجهاً إلى اليهود على
الاطلاق بل كان موجهاً إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين".
والكاتب اليهودي "مور
غنشيترن" هو أيضاً أدلى بدلوه من خلال أبحاثه التي نشرتها بعض الصحف اليهودية في
فلسطين المحتلة في أوائل السبعينات. ومما جاء فيها "أن هدف الزعماء الصهاينة لم يكن
أبداً إنقاذ اليهود من معسكرات الموت النازية". وبأن رئيس لجنة الانقاذ وعضو رئاسة
الوكالة اليهودية قد صرّح أكثر من مرة بأن أموال الصندوق الوطني اليهودي "يجب أن
تستغل لتنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين، وليس هناك أي ضرورة لانفاق هذه الأموال
لانقاذ اليهود من النازيين...!".
وفي السياق نفسه صرّح عضو الكنيست "خ. لانداو" في
ندوة نظمتها صحيفة "معاريف" اليهودية عام 1966 بقوله: "إن رئاسة الوكالة والأوساط
اليهودية في الولايات المتحدة، كانوا يعلمون بعملية الإبادة عام 1942، لكنهم لم
يلتزموا الصمت فحسب، بل أخفوا ما عرفوا وأجبروا كل من عرف بذلك على الصمت وفي
الجانب الألماني اعترف "أدولف أيخمان" خلال محاكمته بأن النازيين قد تعهدوا
للصهاينة بموجب اتفاق وُقّع بينهما بضمان سلامة بضع مئات من أثرياء اليهود والزعماء
الصهاينة مقابل أن يتعهد الصهاينة بالتزام الهدوء والنظام في معسكرات الاعتقال،
ويضيف أيخمان "أنه لولا تعاون الصهاينة وأعضاء المجالس اليهودية مع السلطات النازية
لكانت ألمانيا في حاجة إلى جهاز استخبارات أكبر بمائة مرة على الأقل من "الجستابو".
هذه التصريحات والاعترافات ما هي في حقيقة الأمر سوى غيض من فيض ما كشفت عنه
السنوات القليلة الماضية، وإن ما ذكرناه، على قلته يكفي لأن يكون دليلاً واضحاً على
أسطورة اليهود الدموية في "العودة إلى أرض الميعاد"، والتي لم تسبب في ارتكاب
الفظائع والفواحش والمظالم على الناس من غير اليهود فحسب، بل إنها سببت في إزهاق
أرواح الملايين من اليهود. ويكفي أن نستذكر للدلالة والمثال قصة الباخرة "باتريا"
عام 1942 والتي كانت متوجهة من ألمانيا إلى فلسطين وعلى متنها المئات من المهاجرين
اليهود، وعندما حاولت السلطات البريطانية منعها من الرسو عند ميناء حيفا وطلبت منها
التوجه إلى مدغشقر، عمد الصهاينة حينها إلى نسفها بمن فيها، واتبعوا ذلك بحملة
دعائية تقول أن ركاب الباخرة قد نفذوا عملية "انتحار جماعي" لأنهم فضلوا الموت على
مفارقة الوطن!!
مجلة العربي، عدد 498.
د. عبد الوهاب المسيري الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، دار الشروق.
موسوعة أسرار من التاريخ د. صالح زهر الدين مؤسسة الرحاب الحديثة.
صحيفة الشرق، 15 نيسان 1994.
عن الإمام علي عليه السلام: "يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم".