أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

همسة وجدانية ملاكي الحارس


نسرين إدريس‏


الفجر حصان أبيض يعبر نهر الليل، وصهيله نبضٌ يتأجج في صدري، يُشعل فتيل التحدي لأطلق ذخيرة انتظاري فأكتب انتصاري؛ أنا نهارُ الليل المظلم، أنا المقاوم أمشي وبداخلي عشقٌ جارف للحياة والشهادة...

أجل؛ إني أرغب بالبقاء حيّاً لأمنح نفسي مزيداً من وقت الجهاد؛ لأتعب، لأشقى، لأجوع وأعطش، لأسهر، لأرمي القنابل على اليهود فأقتلهم، لأقضي ساعات بين المجاهدين أخدمهم، أجل إنها الحياة التي أحب، وعندما أعبر إليها بدهشة النظرة الأولى دوماً، يُرديني شوقُ آخر، ويحملني على أجنحة العشق إلى السماء، فتغادرني حواسي الخمسة لتمتلكني حاسة واحدة: حاسة الحبّ.. حبّ يخترق فؤادي اسمه "الشهادة"..

كانت أمي تقول لي: الحبُ الحقيقي الذي لا يضمحلُ هو أن تهب مشاعرك بصدقٍ دون مقابل. مُذ قالت لي أمي ماهية الحب، غادرتُ مقعد الانتظار من على رصيف المقايضة، حيث تلتقي قطارات المصالح المشتركة، وجموع الناس تخرج من الأبواب الأمامية لتدخل من الخلفية أو بالعكس، أو حتى قد يستبدلون وجهات سفرهم بلحظةٍ بعد تمزيق بطاقة كانوا يعتبرونها في وقتٍ ما الدليل على وجودهم، ويرمونها على الطريق بمنتهى الهدوء. أنا، وبقايا بطاقات سفرٍ ممزقة على قارعة الطريق، أسيرُ وحيداً تحت أضواء باهتة تزيدُ الظلام وحشة، وكلما مشيتُ خطوة رأيتُ عيناها تُنيران قلبي وترشداني إلى وجهتي، فيتمزقُ رداء الوحدة وأستكين تحت أهدابِ عيني أمي.. الأم المؤمنة أصدق بوصلة في رحلات السفر، هي أنبلُ حبٍّ متمازجٍ مع الأحاسيسِ، يُولد معكَ ولكن أبداً لا يموت.. في المكان والزمان.. هي التي كلما كبرتُ احتجتُ إليها أكثر..

 سألتُ أمي مرَّة وأنا أقفُ عند الباب، أحمل حقيبتي متوجهاً إلى مركز عملي في الجبهة: ماذا ستفعلين عندما تسمعين الباب يُطرق قبل آذان الصبحِ وترين رفاقي دوني؟! رمتني بنظرةٍ حادة، خبأت خلفها أنهاراً غزيرة من دموع لن تذرفها: أينما كنتَ.. وفي أي وقت.. سأكون معكَ.. وسأشعر بك.. كيف يمكن لشخصٍ ما أن يكون معكَ وأنت بعيد عنه مسافة قد تفوق الفارق بين الموت والحياة؟ كيف يمكن أن تجد نفسكَ في لحظة ما تعيشُ حالةً من الإيقاعِ مع آخر يتناغمُ مع نفسكَ تناغم التنفس مع الرئتين؟ إنه الحب.. الحب الذي يجعلك تبحثُ دون جدوى عن روحك المتمازجة مع روحٍ إلى حدٍّ لا تستطيع أن تعرف أيهما لك.. هكذا أحسُّ بأمي.. وأنا، مُذ تكونت في رحمها سقتني نفسها وبتُ لا أرى وجهي إلا ظلاً لوجهها، ومُذ أخذتني بين ذراعيها في الضمة الأولى عرفتُ معنى الحب..

لم أجلس يوماً لأفكر بالعلاقة التي تربطني بأمي، غير أنها أمي التي ربتني وأدّبتّني وزرعت فيَّ الفضائل والخصال الحميدة وعلّمتني كيف أواجه الأيام بصلابةٍ وشموخ.. كنتُ إذا ابتعدتُ عنها وألهتني الحياة بمشاغلها أياماً وأسابيع، في لحظة التعبّ الأولى، وفي الإحساس الأول للحاجة للحب، سمعتُ صوتها يناديني لأعود وأغفو أمام ناظريها.. (الرجوع إليها) حالة من الاطمئنان تسري بداخلي عندما تطرقُ فكرة الرجوع رأسي المثقل بالهموم، إلى أن جاء يوم وصار من الممكن أن لا أعود.. صعقتني فكرة أن لا تتحمل الخبر، أو أن لا تدعني أنسلُ من بين أصابعها إلى مكانٍ قد يكون مكاني الأخير.. ولكن كان لا بدّ أن أخبرها، لأني أعلم أنها ستشعرُ بكل ما أخفيه، وستقرأ عيناي بوضوحٍ أكثر من لغة الكلام.. وأخبرتها، كانت دائماً تنتظرُ هذه اللحظة التي سأخبرها فيها بأني سوف (أتفرغ) في المقاومة الإسلامية.

قالت لي وهي تقوم بطي ملابسي في الخزانة: أنا أعرفُ إني سأتألم عندما تغيب عني، ولكني أدرك أيضاً أن الأمهات اللواتي قدّمن أولادهن شهداء كنّ يملكن شعور الحب العارم تجاه أولادهن، فلماذا أميز نفسي، ولماذا أمنعك من سلوك الطريق التي أراها طريق الصواب.. لقد علّمتني الحياة يا ولدي أنّ طريق الحقيقة صعبٌ إلاّ على الشجعان.. فكن منهم، سلوكه سهل على الذين يجيدون الحب، وصعب على الكاذبين المرائين المدّعين.. إحمل البندقية إن كان حبك لها لن يضمحل...

بدأت أغيبُ طويلاً عن المنزل، وفي المحاور هناك، كنتُ أشعر بأمي تمنحني القوة والعزيمة، في لحظات البرد القارس، أشعر بيديها تدفئان بردي، وحين أسند رأسي على صخرة لأرتاح قليلاً تنساب أصابعها بين خصلات شعري لتمسح رأسي برفقٍ، فأغفو كطفلٍ صغير يناغيه صوتُها.. وعندما أقوم ورفاقي بمحاولات لطبخ الطعام، أتذكر طعم أكلها المفعم بالحنان، وفي صمت الليالي، أسمع صوتها يدعو لنا فيزهر النصر على بنادقنا.. وعند احتدام المعارك، واشتعال القذائف، واحتضار الحياة، تحرسني عينيها وتحفظني بدعاءٍ يتلوه قلبها فيقع في قلبي؛ إنه حبّها الذي لا يضمحلُ، حبّها كل الحياة.. وإذا ما سقط بيننا شهيد، رأيتُ دماه تسيل دمعاً على خدّي أمه، وأدرك أن التراب الندي تحت جراحه يشمخ فخراً بين يديها، وهي ترش الورد على نعشه وتزغرد (أنا من ربيتُ هذا البطل) فاغبطه لأنه في آخر لحظات حياته كان وردةً بين كفي أمه..

أمي؛ يا ملاكي الحارس أينما كنتُ، شكراً لحبك الذي أعطيتنيه دون مقابل، شكراً لقلبك الذي علّمني كيف أني بالحب دوماً أكون قوياً...

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع