كان آية اللَّه العلامة الفذ وشيخ الحفاظ والمحققين الشيخ
عبد الحسين الأميني نجل آية اللَّه الشيخ أحمد الأميني التبريزي النجفي عملاقاً بكل
ما في الكلمة من معان سامية. كان عملاقاً في فهمه وإدراكه، في علمه وتحقيقاته
وتآليفه وكتاباته وفي اخلاصه وتفانيه وولائه لأهل البيت عليهم السلام وفي عبادته
وتهجده وبكائه وفي خُلقه وتواضعه. ولد في مدينة تبريز من مدن إيران عام 1320هـ.
ونشأ في بيت علم وتقى، وتربى على والد زاهد مولع بالعلم بين أسرة محافظة على الطقوس
الدينية. ومنذ نعومة أظفاره كان على جانب كبير من الشوق إلى طلب العلم، وهو يتحلى
بنبوغ فكري، ويقظة ذهنية وقادة في الحفظ. توفي في طهران في سنة 1390هـ وشيع جثمانه
الطاهر تشييعاً مهيباً ثم نقل إلى بغداد للمرور على حرم الإمامين الجوادين في
الكاظمية ومن ثم إلى كربلاء حرم سيد الشهداء لتجديد العهد به، وبعدها نقل إلى مثواه
الأخير في النجف الأشرف بعد زيارة أمير المؤمنين عليه السلام ودُفن في المقبرة التي
أعدها في حياته.
* دراسته:
بدأ أولياته عند والده ودرس عليه، ثم تتلمذ على آخرين بتردده إلى مدرسة الطالبية
وهي من أهم مراكز الثقافة ومعاهد العلم المعروفة في تبريز؛ فقرأ مقدمات العلوم،
وأنهى سطوح الفقه والأصول على عدد من أجلة علماء تبريز منهم: آية اللَّه السيد محمد
بن عبد الكريم الموسوي، وآية اللَّه السيد مرتضى بن أحمد بن محمد الحسيني الخسرو
شاهي، وبعد أن بلغ عندهم مرتبة سامية، وتأهّل للحضور في مرحلة درس الخارج غادر إلى
النجف الأشرف معتكفاً على طلب العلم، وتحصيل المعارف جاداً في بلوغ مراتب الكمال
والفضيلة، وتلقى الينبوع الصافي من لدن عمالقة الفقه والأصول والكلام أمثال: آية
اللَّه السيد محمد باقر الحسيني، وآية اللَّه السيد أبو تراب بن أبي القسام
الخوانساري. وقد قضى هناك أعواماً نال فيها درجة رفيعة من العلم ورتبة سامية من
المعرفة، وحظاً وافراً من الأدب؛ ثم عاد إلى مسقط رأسه وحط بها رجل المقام فترة غير
قصيرة، كان له بها مجالس وعظ وارشاد في تهذيب النفوس، وتوجيهها، وتغذية أبناء
مدينته ببنات أفكاره وآرائه من المعارف الدينية.
وقد تركت له تلك المدارس الإصلاحية
وتوجيهاته الدينية ذكراً خالداً إلى الأبد. وفي ثنايا تلك المرحلة عكف على المطالعة
والتحقيق والتأليف، وبعد برهة رأى أن روحه التواقة للعلم تهفو إلى المزيد؛ فعاد إلى
النجف الأشرف للاستفاضة من حلقات دروسها، والانتهال من ندواتها الزاخرة التي تتجلى
فيها أنواع العلوم بأسمى حقائقها وأعمق مراحلها. وقد حضر هناك على جمع من حجج
اللَّه، وآياته، وفطاحل العلم، وأروى ظمأ قلبه من بنات أفكارهم، ويانع علومهم، وبلغ
بدراسته المرتبة التي كان يطلبها وأحرز درجة عالية في الفلسفة، والكلام، واجتهاداً
في الفقه، وتبحّراً في الأصول، وبلغ رتبة الاجتهاد في المعقول، والمنقول، وحاز على
شهاداتهما. وقلد وسام الاجتهاد، ومنح استقلال الرأي والإفتاء من قبل كبار العلماء
أمثال: آية اللَّه السيد ميرزا علي ابن المجدد الشيرازي، وآية اللَّه المرحوم الشيخ
الميرزا حسين النائيني النجفي. ومنح أيضاً من أئمة الحديث الإذن في رواية ما اثر
عن المعصومين، وصدرت له تلك الإجازات الرفيعة من معاقد العلم، وهي تشهد له بالمكانة
الرفيعة، والمقام المحمود من الثقة، والأمانة، وتنبىء عن رفيع منزلته لديهم.
* زهده:
بعد أن بلغ العلامة الأميني منزلة الاجتهاد الرفيعة عكف على التدريس والتصنيف
والتحقيق وقضاء أكثر ساعاته في الليل والنهار بالمطالعة والتزود من التراث العلمي
الإسلامي وفي المراحل التي قضاها كان ملازماً للزهد والتقى، ورعاً متعبداً على جانب
كبير من الصلابة الدينية، كريم النفس، رحب الصدر، حسن الخلق، عالي الهمة، عفيف
الطبع ومتوكلاً على خالقه، رغداً في عيشه البسيط وحياته المتواضعة غير مكترث
بالدنيا وما فيها معرضاً عنها ومقبلاً على الآخرة لا يبرح من ترتيل آي الذكر الحكيم
في ذم هذه الحياة الفانية مطمئن النفس بالدرجات الرفيعة الباقية في الدار الخالدة.
* عباداته:
كان العلامة الأميني ولوعاً بقراءة القرآن والدعاء والصلوات المسنونة إذا قرب الفجر
قام إلى صلاة الليل وقرنها بفريضة الصبح ثم جلس إلى قراءة القرآن حتى ينهي جزءاً
كاملاً كل يوم وبعد تناول طعام الصبح يأوي إلى مكتبته الخاصة ويعكف على المطالعة
حتى يحضر عنده تلامذته ويبقى مستمراً في التدريس والبحث حتى يحين موعد أداء فريضة
الظهر فيقوم لأدائها ثم يتناول طعامه ويأخذ من الراحة زهاء ساعة واحدة ثم يعود
للعمل في مكتبته حتى منتصف الليل. وكان كثير الزيارة للحرم العلوي الشريف وكثيراً
ما كان يقصد زيارة سيد شباب أهل الجنة في كربلاء راجلاً طلباً لمزيد من الأجر، يقضي
طريقه خلال أيام أو أكثر في الوعظ والإرشاد والتوجيهات الدينية على أهل القرى التي
يمر بها كما أن حاله في مجالس الأئمة عليهم السلام كانت متميزة لكثرة بكائه وجزعه.
وكان إذا حل شهر رمضان المبارك تفرغ للصيام والعبادة وعند ذلك يلزم نفسه بقراءة خمس
عشرة ختمة من القرآن يهدي ثواب أربع عشرة منها إلى المعصومين الأربعة عشر ويخص
والديه بواحدة.
وإلى جانب هذه السيرة الإسلامية لم ينس فروضه الاجتماعية تجاه ذوي
الحاجات فكان كثير البر لم يرد سائلاً وكان يحمّل نفسه المتاعب والعناء لحل مشاكل
البائسين وهمومهم.
* مستنسخاته:
من الأعمال العظيمة التي قام بها العلامة الأميني هي تأسيسه مكتبة الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام العامة في النجف الأشرف وقد بذل كل جهده حتى أظهر هذه المكتبة
من العدم إلى الوجود وجعلها صرحاً ثقافياً عالمياً شامخاً وخلال السنوات العشر
الأخيرة من عمره جاب العالم الإسلامي باحثاً في أروقة المكتبات العامة والمراكز
الثقافية وفي بطون الموسوعات والصحاح والمسانيد والسير الموسعة مفتشاً عن تراثنا من
المصادر والروايات الموثقة والمسانيد الصحيحة والتقط من تلك الخزائن الشيء الكثير
لاستنساخها بيده الشريفة وتصوير الكثير منها على "المايكروفيلم" وطبعها على الورق
وجلدها ثم أصبحت كتباً تحاكي النسخة الأصلية وجلبها إلى مكتبته العامة وجعلها في
متناول أيدي المحققين والباحثين والكتاب والدارسين والتي كانت المكتبات الشيعية لا
سيما في النجف الأشرف تفتقر إليها. وفي حادثة طريفة تبين مدى اهتمام العلامة
الأميني بمكتبته تلك والذي شعر به حتى الأطفال ما حصل عندما دخل العلامة يوماً داره
فوجد الأطفال من أحفاده وأسباطه يلعبون في ساحة الدار ولم يشعروا بوروده وكان بيد
أحدهم مصباح كهربائي وكان معتزاً به فقال له الآخر: اخفيه عن جدنا إذا حضر ولا تدعه
يراه فقال الذي بيده المصباح لماذا؟! قال: أخشى إن رآه يأخذه منك ويذهب به إلى
المكتبة فلا شيء ذا قيمة وشأن في الدار إلا وأخذه إلى المكتبة.
* مطالعاته:
كان العلامة الأميني قد أخذ طريقه إلى مكتبات النجف الأشرف العامة والخاصة وكان
يستنسخ من نفائسها فقد كان ممن أدركوا نفائس المكتبة الحيدرية وسبر محتوياتها ووقف
على أوراقها المبعثرة كما تسنى له مطالعة ما تضمه سائر مكتبات النجف الأشرف الأثرية
الخاصة والتي تحتفظ آنذاك في خزائنها على أنفس المخطوطات الفكرية وقد طالع جل
محتويات مكتبات العديد من العلماء الكبار هناك ومكتبة الحسينية التسترية وبعد أن
قضى وطره من مكتبات النجف الأشرف أخذ يتجول في مدن العراق فوقف على ما تضمه مكتبات
العديد من العلماء والمخطوطات الأثرية في البيوتات القديمة في الكاظمية وبغداد
وسامراء والحلة والبصرة وبعد أن استوعب معظم ما في تلك المكتبات يمم شطر البلدان
الإسلامية العريقة بتراثها الضخم التي تدخر في خزائنها من كنوز الكتب الخطية
النادرة مبتدئاً بالقارة الهندية ومن ثم قصد سوريا وطاف في مكتبات تركيا بالرغم مما
كان يعاني من الآلام المبرحة من جراء مرضٍ عضال.
* مؤلفاته وتحقيقاته:
أسفرت جلادة العلامة الأميني في المطالعة ومثابرته في التحقيق وقضاء أكثر أوقاته في
سبر الأسفار العلمية والوقوف على الآراء والمعتقدات في البحوث الإسلامية عن خطوات
علمية خالدة أتحف بها المكتبة الإسلامية وتتلخص جهوده العلمية وجهاده الفكري في
تأليف:
1 - تفسير فاتحة الكتاب.
2 - شهداء الفضيلة.
3 - كامل الزيارة.
4 - أدب الزائر لمن يمم الحائر.
5 - سيرتنا وسنتنا.
6 - تعاليق في أصول الفقه على كتاب "الرسائل" للشيخ الأنصاري.
7 - تعاليق على كتاب "المكاسب" للشيخ الأنصاري.
8 - المقاصد العلية في المطالب السنية.
9 - رياض الأنس.
10 - رجال آذربيجان.
11 - ثمرات الأسفار.
12 - العترة الطاهرة في الكتاب العزيز.
13 - الغدير.
* كتاب الغدير:
هذا الكتاب هو كل حياة العلامة الأميني وجل جهوده وهو أنموذج طاقته الخلاقة ودليل
جلده في تحمل الصعاب وعنوان شخصيته العلمية والشعلة الوضاءة لبيانه ومعجزات بنانه.
قضى على هذا الكتاب ليله ونهاره وقد تطلب منه تأليفه المرور بعشرات الألوف من الكتب
المطبوعة والمخطوطة ومطالعة عشرات الآلاف من المجلدات بجميع صحائفها. وقد رأى أن
موسوعته الخالدة "الغدير" تتطلب منه التفرغ فترك البحث والتدريس وجلس معتكفاً
بمكتبته الخاصة محتماً على نفسه الكتابة والمطالعة ست عشرة ساعة في الليل والنهار
مكابداً كل الحواجز ليخلد في سجل التأريخ الحقيقة ناصعة وضاءة مشرقة كالشمس بعدما
أمضى نصف قرن من عمره في تأليفه حتى أصدر أحد عشر جزءاً من الكتاب وفي غضونه بحوث
إسلامية عالية ودروس دينية ثمينة في التفسير والحديث والتأريخ والآراء والمعتقدات
مقرونة بالتحقيق والتمحيص، والتقصي والاستقراء الشامل مدعمة بالمصادر العلمية. وقد
أصبحت هذه الموسوعة العلمية التاريخية من المصادر المعول عليها عند المحققين
والكتاب والمؤلفين والخطباء في السيرة والتاريخ والفقه والأدب والشعر والثقافة
العامة والمعارف والمناظرات والمحاججات ولا بد لكل عالم متتبع وباحث محقق وخطيب
مفوه وأديب بارع من الرجوع إليه والأخذ منه.