الدكتور بلال نعيم
في جمادى الآخرة ذكريان للزهراء عليها السلام، في إحداهما
تفتُّح الزهرة وفي الأخرى ذبولها قبل حين أوان الذبول؛ إطلالة الزهراء عليها السلام
على هذه الحياة الدنيا كانت في العشرين من جمادى الآخرة، وعجل موعد الرحيل عنها
ليكون في الثالث من جمادى الآخرة، بعد ما يقل عن إحدى وعشرين سنة كانت هي مسافة
العمر التي تستحقها الأرض من رؤية ذلك الوجه الملائكي لسيدة نساء العالمين. وما بين
الزهراء والمهدي هو من حيث الزمان ما بين جمادى وشعبان في الولادة، وما بين جمادى
ومحرم في الاستشهاد، والجامع بين هذه الأزمنة والتواريخ هو الحسين عليه السلام
بدمائه، وأهل بيته، وصحبه، والسبايا، والأيامى، والثكالى، والأطفال المذعورين أو
المذبوحين.
العلقة بين محطات تلك الأزمنة عباءة زينب عليها السلام موصولة بقيود السجاد، تروي
قصة ألم الضلع على مقربةٍ من البقيع غير بعيدة، حيث الآهات المنبعثة من حنايا
الزهراء عليها السلام تناجي الرسول صلى الله عليه وآله الراقد على مقربةٍ منها، وهو
يسمعها، يشدّ على صدره اعتصار المتألم الموجع المتحسر، وهو يصغي إلى أنّات ابنته
وهي أم أبيها التي يرضى اللَّه لرضاها ويغضب لغضبها، وها هي شاكية باكية تتقاطر
منها الدماء، من عيونٍ تذرف الدمع الأحمر على الوجنات المطهرة، تنعي الحسين عليه
السلام قبل حين وفاته وبعد ذلك تعاهد على أن تحضر كل مجالس المآتم على سيد الشهداء،
تواسي المحبين الذين يواسونها. وبدل أن تنادي المصطفى صلى الله عليه وآله فإنها
تستغيث محمداً آخر هي له الجدة، كما كانت لمحمد الأول صلى الله عليه وآله الأم، أي
تنادي صاحب الزمان أرواحنا فداه، تحاول استشراف موعد ذلك الزمان حيث سيقيم المهدي
المأتم الرهيب الذي يحضره أنبياء وأولياء على تربة كربلاء، وهناك سوف تقلل الزهراء
عليها السلام من ذرف الدموع، وتتوشح بلونٍ أقل اسوداداً، فالثكل سوف ينزاح، وعتمة
الأيام سوف تميل نحو الانقشاع، ولن يمس أحدٌ ضلعها، ولن يجرُؤَ أحدٌ على ظلم
أبنائها وبناتها والأحفاد، وسوف تُمحى كربلاء عندها من ذاكرة التاريخ ليحيل في
الموعد نفسه ذكرى الانتقام ممن ظلموا الحسين عليه السلام وأفردوه وعذبوه وخذلوه
وقتلوه وأسروا رأسه ورفعوه واقتادوا السبايا ومعهم العليل وبقية من ذرية الرسول صلى
الله عليه وآله الذي طالما نادى في أمته وعلى لسان ربه
﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾.
أجل في جمادى الثانية كان تفتح الزهراء في مكة، وكان ذبولها في المدينة، كان بزوغ
فجرها مع خديجة والرسول صلى الله عليه وآله وهما ماؤها وسقيها وهواؤها وحياتها، ثم
فقدتهما فإذا بها وكأنها تفقد مصدر الحياة فتموت، وها هو الأمير عليه السلام واقف
على تربتها على ذلك الصعيد الطاهر، محني الظهر، يودّع الزهراء عليها السلام ببعض
كلمات تكاد تكون جزيئات القلب الذائب والمهجة المنفطرة، وكأن لسان حاله الاعتذار من
الرسول صلى الله عليه وآله، فها هي أولوية الحفاظ على دين محمد حالت دون الدفاع عن
بنت محمد صلى الله عليه وآله، فيوجه السلام إلى الحبيب، وإلى ابنته النازلة إلى
جواره، يبلل التراب بدموع مقلتيه.
ومع الوداع أظنه يراسل الزمان قدماً إلى ذلك
الموعد المنتظر، حيث سيخرج آخر حفيد للزهراء عليها السلام في البقعة ذاتها، حيث
يكتشف قبرها ويمسح عنه غبار رفات السنين، ويكشف النقاب للمحبين عن المكان الذي كانت
له شرافة احتضان جسد الزهراء عليها السلام، إلى جنب قبر النبي صلى الله عليه وآله
أو بين قبره ومنبره، يأتي المهدي عجل الله فرجه حاملاً دلو ماء من زمزم، يمشي حافي
القدمين احتراماً لذلك المكان، وهو مطأطئ الرأس، يمشي مفرداً طرف عمامته وخلفه
موكبٌ من الرهبة والخشوع لآلاف الموالين الذين يشاطرونه البكاء والعويل بصوتٍ خافت
مع الذهول والسكون، ويقطع المهدي عجل الله فرجه بضع مئات من الأمتار، ليقف بعد ذلك
معلناً نهاية مسيرة آلاف السنين، فهنا قبر الزهراء، هنا جلاء حقيقة أنها الحق في
صورة الإنسان، وأنها الحق الذي سوف يزهق بظهوره الباطل، فيرمي المهدي عجل الله فرجه
بنفسه على ذلك القبر، ويبدأ بإزالة التراب عنه حتى ينكشف للأنظار، ويجلس يقبل ذلك
القبر ويشمّه، مقدّماً الوعد لجدته المظلومة بأنه سوف ينتقم من الذين قتلوا الحسين
عليه السلام، ومن الذين سبوا زينب عليها السلام، ثم يقف ولسان حاله: يا جدتاه،
عليكِ مني سلام اللَّه، أنا حفيدك الواله للقائك، الحانق لظلمكِ، أنا الذي ادخرني
ربي لأنصر الحق وأمحق الظلم، أنتِ واللَّه سيدة النساء، وأولادك سادة البشر، وأنا
فداءٌ لكِ ولأبنائك، وإلى الملتقى في الجنة، بعد أن أؤدي حق القربة لكِ.
وبعد ذلك، أي بعد محرم الذي يشهد خروج المهدي عجل الله فرجه، وبعد خمسة أشهر يأتي
جمادى الآخرة مبتهجاً وضاءً، فلن تذبل الزهراء مرة أخرى، فها هو المهدي عجل الله
فرجه يسقي جذعها، والغصون من ماء الحياة التي لا موت بعدها، وعندها تتحول تلك
الشجرة لتكون محور الحق في هذه الحياة الذي تصبو إليها قلوب المؤمنين المتقين
العارفين، حيث يبدو لكل العالم بأن الزهراء هي مثال الكمال للإنسان، كل إنسان، في
العوالم التي يستجمعها في الظاهر والباطن وفي الكلمات المختلفة التي تتآزر فيما
بينها لتشكل المخلوق الخليفة التي أودعها اللَّه الأرض، لتبني نفسها وتعمر الكون من
خلال الاقتداء بنموذج الصالحين، وفي مقدمهم فاطمة الزهراء عليها السلام، التي هي
المثل الأعلى للرجال وللنساء على امتداد الكون وعالم الإنسان، ومهما حالت الأنفس
في طغيانها عن إشراق تلك الحقيقة، فإن اللَّه سبحانه آلى على نفسه أن يظهرها، ولو
كره الكافرون ولو كره المشركون، على يد فجر ليلة الحقيقة، الذي يرفع عنها ظلمة
الليل وقتام الأيام، فتبدو كما أرادها اللَّه مشعةً مضيئة عندما تشرق الأرض بنور
ربها.