د. محمد محسن علّيق(*)
لا نبالغ إن قلنا إنّ المقاومة الإسلاميّة هي نقطة العطف
الأهمّ، والتحوّل الأعظم في مجتمعنا على مدى تاريخه المعاصر، وصولاً لإعادة تشكيل
حاضره ومستقبله. ولئن كانت انطلاقة هذه المقاومة - الظاهرة، على يد أنصار الإمام
الخميني قدس سره في العام 1982م وبُعيد الاجتياح الصهيونيّ للبنان، قد بدّلت ذلك التهديد
الكبير إلى فرصة كبيرة، فإنّ التحدّي الأساس اليوم هو في تحويل هذه الفرصة
الاستثنائيّة -في روحها وفكرها وانتصاراتها وتجاربها- إلى مسار اجتماعي ومنهج نهوض
شامل يحقّق التقدّم الحضاريّ في أبعاده المختلفة ويحلّ المشاكل المتراكمة، ويفتح
الآفاق الجديدة لحياة تليق بمجتمع المقاومة.
* عناصر القوّة
المعادلة واضحة: إنْ أردنا أنْ نستثمر تجربة المقاومة الإسلاميّة، التي حقّقت
المعجزة في انتصارها العسكريّ والسياسيّ على المحتلّ، ونستفيد منها بأفضل ما يمكن
في تحقيق فتوحات وإنجازات على المستوى الاجتماعيّ والتربويّ - الثقافيّ، يجب علينا
تحديد عناصر القوة والتميّز في هذه التجربة ومن ثمّ السعي الواعي لاستخدامها في
المجالات الأخرى، مع ملاحظة الفروقات والواقع بالطبع.
* المشروع فكريّ - نظريّ
إنّ هذه المقاومة هي مشروع فكريّ - نظريّ بالدرجة الأولى، حيث إنّ أصل وجودها كحركة
جهاديّة مقاومة انطلق من نظريّة ولاية الفقيه، ومن فكر الوليّ الإمام الذي طرح رؤية
جديدة للإسلام ولحياة المسلمين في عصر غيبة المعصوم تمّ تعريفها بـ "الإسلام
المحمديّ الأصيل" مقابل الإسلام الأمريكيّ أو الإسلام العلمانيّ أو الإسلام
المتحجّر أو إسلام وعّاظ السلاطين ... فلا ينبغي لضغوط الواقع أو الانشغالات
التنفيذيّة أن تُنسينا هذه المسألة البديهيّة، فننظر إلى المقاومة كحركة عمليّة
وقوّة فعل فقط.
وعليه، فإنّ الحاجة إلى التنظير والـتأسيس الفكريّ لمجالات المجتمع المختلفة
كالإدارة، والتربية، والتعليم، والعمل الثقافيّ، والإعلاميّ والفنيّ وغيره هي من
أولويّات نقل تجربة المقاومة لحلّ مشاكلنا الاجتماعيّة. أمّا مقولة "شبعنا تنظير
ونريد شيئاً عمليّاً" فواضح بطلانها وضعفها عند أدنى تأمّل في مسار المقاومة وخطاب
الوليّ الداعي إلى إنتاج الفكر والنظريّات، وصولاً لبناء الحضارة الجديدة، وحلّ
مشكلات الناس بالإسلام الحيوي الفعّال، المنتج للفكر والعلم "النافع" المؤدّي إلى
العمل "الحسن". ولعلّ هذا الرهاب من التنظير والخوف من المنظِّرين كان له ما يبرّره
قبل نهضة الإمام الخمينيّ. ولكنّه، حالياً، قد سقط وبان تهافته بعد كلّ هذه
التحوّلات الحضاريّة الكبرى، التي تحقّقت بقيادة منظّر ومفكّر إلهيّ عظيم لثورة شعب
آمن بفكره وعشق إخلاصه فوالاه ونصره وانتصر به.
إنّ مواجهة المشكلات والتهديدات، الاجتماعيّة أو الأخلاقيّة أو التربويّة وغيرها
تحتاج إلى نظريّات فكريّة واضحة ورؤى علميّة تحدّد الوضع المطلوب، وتفهم الواقع
بدقّة، وتدرك كيفيّة الانتقال من الانفعال وردّة الفعل وإدارة الأزمات، إلى الفعل
والمبادرة والتخطيط بعيد المدى.
* الإبداع والابتكار
إنّ المقاومة الإسلاميّة كانت ولا تزال ظاهرة إبداعيّة، إبداع في التخطيط والأساليب
وابتكار في تطوير القوة ومفاجأة العدو وإدهاش الصديق. وليست العمليات الاستشهاديّة
والكمائن النوعيّة والاختراقات التقنيّة والأمنيّة سوى شواهد ونماذج عن العقل
الإبداعيّ السبّاق في مواجهة عدوّ أكثر عدّة وإمكانات ماديّة وبشريّة، وهزيمته
وطرده لأول مرّة في تاريخ الصراع من أرض محتلّة دون قيد أو شرط.
وعليه، فإنّ عنصر الإبداع هو أصل ينبغي تفعيله واستخدامه بحدّه الأقصى في مواجهة
التحدّيات الاجتماعيّة والظواهر الأخلاقيّة والتربويّة وخاصّة مع تضاعف شدّة الحرب
الناعمة والغزو الثقافيّ الأمريكيّ والذي يعتبر الإمام الخامنئيّ مواجهته من
الأولويّات الكبرى. فهل يمكن مواجهة حرب ثقافيّة تسلّلت إلى البيوت والعائلات
والمدارس وكلّ خلايا المجتمع، بالانفعال وردّات الفعل والدفاع وأسلوب المنع
والتجنّب؟ أم ينبغي وضع تصوّر لنمط الحياة المطلوب نظريّاً "الحياة الطيّبة"
والتخطيط للتحرّك نحوه بروح إبداعيّة وابتكاريّة جريئة تواجه نمط الحياة الغربيّة
الذي تسعى الحرب الناعمة لفرضه علينا ليلاً ونهاراً بشكل سلس ودقيق ومدروس وجذّاب؟
ولعلّ القاعدة العلويّة "فوالله ما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلّا ذلّوا"(1)
تسري على الغزو الثقافيّ سريانها على الاحتلال العسكريّ المباشر. فهل نقوم بتنمية
روح الإبداع والتشجيع على التفكير الخلّاق في إداراتنا ومدارسنا وبيوتنا انسجاماً
مع روحيّة المقاومة الثقافيّة؟
* صناعة الخطاب
لقد استطاعت المقاومة الإسلاميّة، ومنذ البداية، أن تنتج خطاباً ومنطقاً جديداً
قويّاً واضحاً، من خلال فكرها الأصيل وانتمائها لمشروع الولاية وجهاد علمائها
وشهدائها وقادتها وكوادرها والدعم الشعبيّ، فصارت مصطلحات وشعارات مثل: "الموقف
سلاح" و"الاحتلال إلى زوال" و"قوافل الشهداء تصنع النصر" وصولاً إلى "سنكون حيث يجب
أن نكون" تظهيراً لخطاب المقاومة وخطوطاً عامّة توجّه وتهدي المجتمع وتغيّر في
ثقافته التي كانت قبل هذه النهضة تحمل خطاباً معاكساً يتجلّى في شعارات كـ "قوّة
لبنان في ضعفه" و"العين لا تقاوم المخرز" و...
وما لاحظناه بوضوح من خلال قيادة الإمام الخامنئيّ وكيفية صناعته للخطاب (إنتاج
العلم - التنظير - نموذج التقدّم مقابل مفهوم التنمية الغربيّ - فلسفة التربية
الجديدة - نمط الحياة الطيّبة - الجهاد الكبير- بناء الحضارة الإسلامية الجديدة -
الجبهة الثقافيّة - الشباب المؤمن الثوريّ - السيادة الشعبيّة الدينيّة - الصحوة
الإسلاميّة وغيرها الكثير...) يؤكد هذ المعنى على ضرورة صناعة الخطاب وترويجه
عمليّاً في المجالات الثقافيّة لإصلاح المشاكل الاجتماعيّة والتربويّة والإداريّة.
وهذا ما يقوم به العدوّ الأمريكيّ من خلال الإعلام والفنّ والأدب ونشر لغته،
وثقافته، وقيمه وجعلها نمط حياة مقبولاً ومطلوباً لدى أجيالنا وأبناء مجتمعنا.
المقاومة الإسلاميّة المنتصرة هي أفضل نموذج مُلهم للعاملين في المجال: التربويّ
والاجتماعيّ والإعلاميّ كي يدرسوا ويبحثوا في تجاربها ويقوموا بصناعة الخطاب الأصيل
والجذّاب والمؤثّر المتناسب مع الرؤية المتكاملة ومعرفة الواقع.
هذه بعض مفاتيح البحث في تثمير التجربة. وبالطبع فإنّ التأمّل والبحث العلميّ
يقودنا إلى العديد من العناصر الأخرى، والتي يحتاج كلّ منها إلى مطالعة وبحث فكريّ
مستقلّ. على سبيل المثال لا الحصر: الاحتضان الشعبيّ، روحيّة العمل التطوّعيّ
باندفاع شخصيّ، متابعة فكر سماحة الوليّ القائد وتوجيهاته (الاجتماعيّة والثقافيّة
والتربويّة والعلميّة والإداريّة)، الاستفادة من تجارب الآخرين وإنجازاتهم (خاصّة
الجمهوريّة الإسلاميّة)، اعتماد أصول إدارة التحوّل (العلم والتخصّص، الإبداع،
الشجاعة، المثابرة، التوكّل على الله)، رصد العدوّ ومعرفته بدقّة، الثقة والاعتماد
على جيل الشباب...
* الفرصة الذهبيّة
إنّ انتصار المقاومة ونجاحها الأسطوريّ في تحرير الأرض، وهزيمة المحتلّ الصهيونيّ،
ومواجهة مشروعه التكفيريّ قد شكّل الأرضيّة المناسبة، بل الفرصة المثاليّة، لينعم
مجتمعنا باستقلاله السياسيّ وحريّته وسيادته. وهذا شرط لازم للتقدّم. فلا يمكن لأيّ
شعب أن يحقّق أهدافه تحت ظلّ الاحتلال وذلّه العسكريّ أو الثقافيّ. لكن رفض الظلم
ينبغي أن يكون مقدّمة لنشر العدل والعدالة ونمط الحياة الطيّبة، هذا هو الشرط
الكافي والهدف المنشود لمجتمعنا في مسار التمهيد لظهور حكومة العدل المهدويّ
العالميّة. "الفرص تمرّ مرّ السحاب"(2)، فاغتنموا فرص الخير.
(*) أستاذ جامعيّ وباحث اجتماعيّ وتربويّ.
1- الوافي، الكاشاني، ج15، ص48.
2- بحار الأنوار، المجلسي، ج74، ص165.