غادة رضا فحص
سرت كالليل في أزقة الخلود، أحمل بين يدي فسحة أمل أضاءت لي وحشة الظلام. جلست
للحظة على صخرة فسمعت صراخاً وتوعّداً، ينادي والصدى مردداً: "نحن أبناء الكرار،
هيهات منا الذلّة". نظرت حولي، رأيت أسياجاً تعلو لتصل أبواب السماء، ومنصّة
تعذيب مجبّلة بالدماء، وقد علاها علم تتوسطه نجمة سداسية زرقاء، عندها أدركت أنني
أمام معتقل إسرائيليّ ما... وعادت بي الذكرى الموجعة، تذكرتك سيدي بعمامتك البيضاء،
تشعّ ضياءً وأملاً بالتحرير. رأيت في عينيك جبروت العظماء وقد انعقد حاجباك توعّداً
للأنذال، وصدى صوتك قد علا منبر الحرية: "الحرية تؤخذ ولا تعطى، هي حقنا لا
تهاون فيه، تذكروا يا بني صهيون، نحن حزب اللَّه بإذنه غالبون".
سيدي، ألم يحن وقت العودة؟ لا تقل بأن قلبي مات مع أوّل سوط ذقته على جسدك العاملي،
لا تقل بأن حبي للجنوب انتهى بمجّرد أن غبت عنه وغابت شمس الأمان... أأطعموك من
علقمهم؟ أتركوك تقاوم ظلم الليالي اللئام؟ لكنك أنت، ابن الجنوب المعذب، أقوى من
هول الأعاصير، وأكثر صموداً من الجبال، رفضت أن يبقى جنوبك في الأسر وحيداً فآثرت
اللحاق به...، لأنك دائماً شامخ ورأسك لا يعرف إلا للباري الانحناء... اسمع سيدي
صرخة الألم الجبارة من طفلتك "مجاهدة" وهي تناغي: "أبي، واللَّه طال الفراق،
وحلمي الصغير ضاع بين أقدام الغادرين، فعلى أي درب سألقاك"؟ أخذتني دوامة
التفكير، وجدت قربي ناياً، عزفت على أوتار صوتها الحزين كلاماً ودموعاً، رأيت في
عينيّ أولادك صمت السؤال، فيا طفلتي، هذه حال الدنيا، يخرج الطفل من فنائها ليسمع
دويّ القنابل، ليعيش يتيماً مشرداً بين فوّهات المدافع، يصرخ من شدة الألم، نداءات
تزيد المواجع، لكن صبراً يا صغيرتي، أوَ لَم يقل الباري عزّ وجلّ "وبشر الصابرين"؟
عدت إلى منزلي، جلست على منضدتي أخط رسوماً عبثيّة، وجدت قربي كتاباً أكثر اطمئناناً
للقلوب، كتابٌ أنزله رب السماء، أمسكته بكلتا يديّ المرتجفتين، فتحته لترى عيناي
صفحاته المشرقة بنور الجليل، وأقسمت اليمين، وها أنا أعاهدكم مجدداً يا أسرانا، يا
شهداءنا الأحياء، سنقلع لكم باب خيبر مجدداً طالما نحن جندٌ لعلي الكرار، "فاصبروا
وصابروا ورابطوا في سبيل اللَّه".