إنَّ الارتباط وثيقٌ بين العائلة والمجتمع الذي تعيش فيه
كذلك فإنَّ العائلة كمؤسسة اجتماعية هي الوسيط الرئيسي بين شخصية الفرد والحضارة
الاجتماعية التي ينتمي إليها، وقيم المجتمع وأنماط السلوك فيه تنتقل إلى حدٍّ كبير
من خلال العائلة وتتقوى بواسطتها. الذاتُ الإنسانية منظمة تنظيماً تصاعدياً وهي
مؤلفة من عدة منازل يجري اكتسابها في سياق النمو والتجربة، بدءً بالأم والأب وصولاً
للمدرسة والتعلم والإدراك والوعي والبيئة والمؤتمرات الداخلية والخارجية. ولكن تبقى
العائلة ميدان تفاعلات مستمرة وشديدة بين مختلف أعضائها، وهي بدورها صورة مصغرة عن
المجتمع كذلك فإنَّ بنية العائلة تقابلها بنية اجتماعية مماثلة.
بالانتقال إلى العائلة العربية فأول تدريب يتلقاه الطفل هو فن المعاشرة مع الأخوة
والوالدين والأقربين والمعارف، فينمو ويكبر دون أن يجد نفسه وحيداً في أيِّ وقتٍ من
الأوقات، فهو دائماً محاط بالأهل والأقرباء وبالتالي فهو يشرع في محاكاة من يعيش
معهم وسرعان ما يتعلم الطفل فنَّ مداراة الناس ومن حوله من الأهل، وهذه معرفة بحدِّ
ذاتها، معرفة أصول التعامل مع الناس وهذا يؤدي إلى اتساع مساحة التفاعل الاجتماعي
وتدعيم الميل نحو التآنس والتآلف والتكامل وبالتالي نحو الصفِّ المرصوص الذي يبني
هذه الأسس وله آثاره الفردية والاجتماعية على كافة الصعد، وفقاً لما جاء في القرآن
الكريم. ولكن المشكلة عندما تزيد نسبة الإفراط في حبِّ المسايرة والمعاشرة لدرجة
التكلف السلبي ومن ثم يؤدي إلى توتر باطني، لا يتيح للوضوح والصراحة في بعض الأحيان
أن تأخذ مداها عند الضرورة. هذا جزء من بنية العائلة في مجتمعنا العربي وهو نمط
حضاري يؤدي إلى الانتماء للجماعة، من هنا نقرأ حالة الترابط العائلي ويليها الترابط
الاجتماعي في بنيتنا العربية. ولكن، هناك عنصر سلبي في قراءتنا لهذه البنية على
مستوى نواة المجتمع، تكمن في الاستغناء عن روح المغامرة كما يقال العين لا تقاوم
المخرز، هذا ما يزرع منذ البداية في ذهن الأفراد، ويأخذون به معهم في رحلتهم
الاجتماعية وهنا نجد أنَّ حاجات ورغبات اليوم تجري تلبيتها على حساب حاجات الغد.
من
هنا نجد أنَّ التغيير الاجتماعي يجري وصفه بأشكال خاصة، فهو قد يتم فجأة، أو بصورة
غير منتظرة فالشروط اللازمة للانتقال والتغيير أي التخطيط والتنظيم والتنمية تبدو
على شكل مفاهيم جامدة وغير مرتبطة ببعضها البعض وهذا ما ينشأ عليه الأبناء أيضاً،
ما يؤدي إلى وجوده الواضح في سمات المجتمع، من هنا يأتي الشعور بالعجز عند الأفراد،
في أوضاع كهذه يظهر جلياً أن مرحلة العائلية الأولى تؤثر أكثر من غيرها في تحديد
مثل هذا السلوك وهذه السمة في البنية.
كذلك من السمات التي نفتقدها في بنية عائلتنا ومجتمعنا العربي، المعرفة النقدية،
القادرة على اختراق الفكر السائد إلى قلب القاعدة الحضارية التي ينطلق منها سلوكنا
الاجتماعي وينبع منها فكرنا وقيمنا وأهدافنا. والوعي الصحيح هو الوعي النقدي القادر
على كشف الواقع ولا يمكن تغيير الواقع إلا بكشف النقاب عن حقيقته وهذه العملية هي
المعرفة النقدية الهادفة إلى التغيير الموجود عندنا سواء على مستوى طروحاتنا
العائلية والاجتماعية المعرفة الدفاعية والفكر الدفاعي الذي غلب الفكر النقدي،
وأصبح هدف الفرد داخل أسرته وفي مجتمعه وأمام الآخرين هو درء الخطر عن الذات أو
تبرير مكامن ذاته بدلاً من معرفة الذات والميزات والناس من حوله. كذلك عندما نتحدث
عن المعرفة النقدية، ننطلق لنلاحظ مفهوماً آخر يحتاج إلى رؤية نقدية واهتمام
بمدلولاته وخلفياته وأسبابه وهو التمويه وهو يبدأ في البيت ويستمر في المدرسة ثم
يمارس في المجتمع، الفرد هنا لا يستطيع الاعتماد على رأيه أو النظر إلى الأمور
باستقلال فكري وقد لا يثق برأيه. هنا يحتاج إلى الوعي المتغلب على التمويه والقادر
على المعرفة النقدية. كذلك يمكن أن يكون هذا المفهوم داخلياً له أسباب داخلية
بيئية عائلية وعرفية ويمكن أن يكون خارجياً مستورداً، يشتري دون إدراك لماهية ما
يشتريه أو يستورده.
في هذه النقطة نجد أن البعض يأخذ أو يتماهى مع نظريات ورؤى وأنماط غربية أخذها بعد
جولات وصولات أو ربما نشأ عليها في إطاره العائلي أو التربوي أو الاجتماعي. فمثلاً
على صعيد المجتمع الغربي وعلاقته بالعائلة، نجد أنه يضع حداً أو سداً أمام المفاهيم
التي تقوي الروابط العائلية بين الزوج والزوجة أو بين الأهل والأولاد أو بين
الأولاد أنفسهم، فالفرد هو الأساس ولا علاقة له بالآخر، والمعاشرة التي تحدثنا عنها
أو المسايرة أو الألفة والأنس لو عرقلت المصلحة الفردية الذاتية أو الإنتاجية
الذاتية فلا حاجة لها، والفرد هناك مدفوع لكي يحصل مادته وماديته فقط حتى لو كان
ذلك على حساب أهله ومجتمعه والقيم الضرورية للإنسان. حتى أنَّ البعض لا يقف عند هذا
الحد بل يجد ضرورة في أخذ كل ما هو غربي ورفض كل ما يناقضه في ثقافتنا، نحن نحتاج
إلى عملية نقد، ومعرفة بما لدينا ووعي لبنيتنا العائلية والاجتماعية والحضارية،
ولكن هذا لا يعني المعرفة من أجل الرفض والنبذ والوصول إلى التمويه أو التماهي
والاستغراق بما هو آخر أو غربي هو بدوره استهلاكي لأقصى درجات الاستهلاك. والبعض
يستغرق بل يغرق مثلاً في مفهوم الحرية المطلقة داخل الأسرة فلا سيطرة لأب أو أم على
أي فرد داخل الأسرة، بل للقانون سلطة أكثر من سلطتهم فيقارن بين بعض السلبيات
الموجودة على مستوى بنيتنا وبيئتنا، ليعيش إيجابية مطلقة لهذا المفهوم أو ذاك عند
المجتمع الغربي.
وينسى أو يتناسى أن الفرد هناك،مدفوع بنزعة فردية عمياء تجعله يخرج عن أدنى
المواصفات التفاعلية مع من حوله من الأقارب أو المعارف في بيئته الداخلية أو
الخارجية، وتصبح مصالح ومشاعر الآخرين أمراً ثانوياً لا يعيره اهتماماً إلا إذا
ارتبط بمصالحه وبمشاعره بدلاً من علاقات اجتماعية تقوم على الأخوة والتعاون في
مجتمع ترتبط فيه مصالح الأفراد وأهدافهم بمصالح المجتمع وأهدافه. ينظر بعض المفكرين
الباحثين إلى المجتمع الغربي على أنه أول مجتمع في التاريخ يستطيع أن يوفر لأفراده
الأسس المادية لبناء حياته ولكن بدلاً من أن يحقق نظاماً اجتماعياً اقتصادياً هو لا
يزال يرتكز على استغلال الإنسان وعلى قهره واستغلاله. ولقد ورد في إحصاءات في
الولايات المتحدة أنَّ ما لا يقل عن ثلث سكان المدن الأميركية مصابون بمرض نفسي فقد
أصبحوا أداة للنمو الأعمى والتوسع الاستهلاكي ولا يشكل غاية إنسانية في حدِّ ذاته.
إنَّ العودة إلى أنفسنا والاعتماد على قوانا ومفاهيمنا وتصحيح الانحرافات الموجودة
الاجتماعية والتربوية والعرفية والعائلية، تؤدي إلى تغيير وتحرير في الوقت ذاته.
والشرط الأول هو التغلب على شعورنا بالنقص حتى نخرج من الاستعمار النفسي شرط أن لا
نصبح سجناء شخصياتنا بأخطائها فلا نتغير مهما طال العمر وتراكمت التجارب. وهنا يشعر
كل فرد في أسرة وكل أسرة في مجتمع بالفاعلية وليس بالعجز عن التأثير في الأحداث
ويصبح الإنسان محركاً للأحداث ويضيق ما بين القول والفعل وهذا يؤدي إلى الخروج من
الإتكالية والتهرب من المسؤولية.
حينها نجد أجوبة على أسئلة طرحت وتطرح: لماذا نعجز
عن العمل لتحقيق أهدافنا، أفراداً وجماعات في حين تبدو الظروف الموضوعية مؤاتية
لتحقيق هذه الأهداف؟ ولماذا نقبل في أعمالنا ما نرفضه في أقوالنا؟ لماذا نبقى
غائصين في تناقضاتنا، وعاجزين عن تغيير وضعنا؟ وهل هناك هدف واضح في طرائق
البنية العائلية السائدة في المجتمع العربي. ولتبقى العائلة المجموعة الأولى التي
يعود إليها الأبناء كمرجع للقيم وأنماط السلوك ونوعية التفاعل فينتج عنها مجتمع
يمكِّن أبناءَه من تحقيق نموهم الكامل لبلوغ طاقاته القصوى.