مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

همسات وجدانية: أحلام أيمن


نسرين إدريس


استلقى على الوعر مرسلاً نظراته الهادئة إلى النجوم المسافرة في غياهب الفضاء، وراح يصطاد بعض لحظات السكينة من وميض النيازك التي لن يتسنى له رؤيتها ثانيةً بهذا التألق والجمال عند عودته إلى العاصمة، ليعلقها على جدران ذاكرته ولتصبح هذه اللحظات بوابة هروب من الضجيج الفارغ المدوي في أيامه.. كان أيمن يعلمُ قسوة الشرخ الذي سيرتسم على أحاسيسه عند مغادرته ذاك المكان، فقد مضى على تواجده فيه شهوراً حاكت ساعاتها وشاحاً من التالف بين قلبه ومساحاتها الجرداء..

لم يلتفت إلى الوقت، كان يود أن يجالس نفسه وهو في الثياب العسكرية المضمخة بعرق التعب الجميل النابت من مسام مجاهد هاجر إلى اللّه، وليقيس مسافات التغيير التي طرأت على شخصه، وليستشعر الراحة الغريبة المتسربة إلى داخله وهو يحمل رشاشه، والى جانبه دفتر دوّن عليه الملاحظات الهامة وخربش على هوامشه ذكريات لن تغيب عن باله أبداً، فكل زاوية من زوايا دفتره تفتح أمام عينيه مشهداً من المشاهد التي مرت معه طوال فترة الدورة..
لكم انتظر أيمن أن تسنح له الفرصة للالتحاق بدورة عسكرية، فطبيعة عمله لا تسمح له سوى بالمرابطة على الثغور لعدة أيام، لكن هذا العام تغير كل شي‏ء عندما أدرج اسمه على لائحة الأسماء المشاركة في الدورة التي ستؤهله للقيام بأعمال مهمة.. فلم يصدق نفسه وهو يرتب ثيابه في حقيبة صغيرة، وأخته إلى جانبه تساعده وتوصيه أن ينتبه إلى نفسه وأن يحاول الاتصال بها لتطمئن عليه، وهو يعدها خيراً على الرغم من انه لا يسمع من كلماتها سوى أصداء تتردد في صمته المسافر على أجنحة الشوق إلى حيث سيوافي رفاقه..

غادر مسرعاً بحماس يدفعه ليطوي الأرض تحت قدميه؛ لا زال يذكر عندما وصل إلى هنا كيف شعر بأنسٍ رقيق وأمام ناظريه يمتد قفرٌ أجرد.. هنا فقط استطاع أن يفرد صفحات روحه بنقاء وطهارة ليدون على سطورها ما يُرضي اللّه.. هنا للصلاة ترنيم رائع، والدعاء همسات منسابة مع دمعٍ حلو المذاق قريب الإجابة، هنا جُبلت طينة الذين تاجروا مع اللّه تجارةً لا تبور، هنا صقلوا عملاتهم النادرة المنقوشة باللحم والدم واشتروا جنات تجري من تحتها الأنهار، من هنا استقوا لأنفسهم إخلاصاً وعبروا على الصراط امنين؛ هنا الدنيا الجميلة التي تعكس الحياة الآخرة.. هنا يتعلم المرء زرع ما يجني ثماره عندما يفنى جسده البالي تحت تراب النسيان.. أمّا بيروت فهي لا تزال كما وصفها شيخ شهداء المقاومة الإسلامية راغب حرب: "أولها زواريب واخزها إلى جهنم".. غرق فظيع بأعمال تشغل المرء حتى عن التفكير بذاته التي سرعان ما تنمو فيها الأعشاب البرية.. بحثٌ دائم عن معنىً للتعاسة مع انعدام الاستقرار والطمأنينة.. فلسفة وتبريرات أمام النفس التي كلما سألت صاحبها عن غيابه عنها انهالت عليها صفعات الظروف القاسية، وإذا ما وصلت الروح إلى حافة الهاوية رمقت اللّه بدعاء حزين ضاع صداه في المسافة الشاسعة التي أبعدته عن حقيقة إيمانه وتوكله وتسليمه المطلق للّه تعالى، ولكنّ رأفة اللّه به تبقى أملاً ينجيه من شباك اليأس القاتل..

لقد عرف أيمن أن الفرق بين الحياة والمعسكر خيطٌ رفيع يعزله وضوح الرؤيا لحقيقة كل الأشياء.. لا شك أنه سيفتقد لكل لحظة مرت هنا، فلكم تمنى في قرارة نفسه أن تطول الأيام، لكن السعادة تبقى وميض برق في سماء الحياة المظلمة.. استوطن حب البقاء بالثياب العسكرية واستولى على لبه، وما عاد يحلم إلا بفجرٍ يشقُ فيه طريقه نحو صُبحٍ لن يتنفس على وجهه إلا وقد التقى بأحبته الشهداء، أحلامٌ جميلة تراوده يرسمها بتنهيداتٍ تدعو اللّه أن يمنّ عليه بنعمة الجهاد في سبيله، وأن "يثبت له قدم صدقٍ مع الحسين عليه السلام وأصحاب الحسين عليه السلام الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام ".. لاحَ أمام ناظريه من بعيد ضوء الفجر، فاستعد للرجوع إلى المعسكر حيث رفاقه يتهيأون للعودة.. استند على يديه ليهمّ بالوقوف فلامست أنامله وريقات وردةٍ صغيرة نبتت بين تشققات التراب الجافة.. وردة متمردة على المكان والزمان أعطت على صغر حجمها للمساحة الجرداء المحيطة بها لوناً جميلاً للحياة، وأعطت لأيمن عطراً عبقتْ به أحاسيسه الباحثة عن حلمٍ جميل في صحراء حياته، فقطفها واحتفظ بها بين دفتيّ دفتره ليتذكر على مر الأيام القادمة أن تمردها أعطاها الحياة وأعطاه الأمل بإشراقة حلمٍ تستكينُ به نفسه وتطمئن..

مشى بتؤدة وروية صوب رفاقه حتى إذا ما وصل إلى هناك، وجد كل واحد منهم يجلسُ في ناحيةٍ بين شكواه إلى صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه ويدعو اللّه بأن يرزقه الجهاد في سبيله؛ رمقهم بعينيه فرأى أجسادهم خالية من أرواحهم، فدنا منهم بقلبه ليتعلق بأرواحهم الحائمة حول العرش.. هي أحلام أيمن المسافرة بين النجوم تلاقت وأحلام رفاقه؛ حلمٌ رائع بأن ينحتوا الحياة بالعزيمة والرصاص ليكونوا جنوداً للمهدي ‏عجل الله تعالى فرجه: اللهم اجعلنا من جندك فإن جندك هم الغالبون..


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع