الشّيخ علي حسين حمّادي
"تحرّك... تحرّك.. أيها الإخوة ما زال أمامنا مائة متر
وتسقط المدينة. خذوا حذركم...". كان هذا النداء الأخير على جهاز كرّار من غرفة
العمليّات، فتقدّم بخطىً مطمئنّة ثابتة.
* ملحمة استثنائيّة!!
تذكّر في تلك اللحظة الحاج جهاد، مدرّب التكتيك في معسكر الإمام المهديّ، الذي نظر
في عينيه وأعطاه أمراً بقيادة المجموعة في دوريّة قتاليّة. تحمّس "كرّار" للمهمّة،
ونظّم الأدوار في مجموعته، ثمّ خاض الاشتباك التدريبيّ مع إخوانه في المجموعة
الثانية.
عاد "كرّار" إلى أرض الواقع مع سقوط قذيفة أمامه. كانت مدفعيّة المقاومة تمهّد
الطريق بالنيران الزاحفة قبل تقدّم مجموعات الخرق. نظر حوله... ابتسم لحظة، ها هو
اليوم يقود مجموعة قتاليّة في حرب حقيقيّة. فأصوات قذائف الهاون والـ107، والدخان
الذي غطّى المكان، وقتلى وجرحى العدو عن يمينه ويساره، كلّ ذلك يشهد أنّ هذا المكان
كان ساحة ملحمة استثنائية، كتلك التي كتب عنها التاريخ.
* جمال في قلب الجلال
فهم "كرّار" ببصيرة الإنسان المؤمن أنّ الحرب جلال، وأن الجمال مكنونٌ في قلب
الجلال، وفي صلب البلاء. أليست زينب التي نهفو لنجاهد ونستشهد على أعتاب مقامها
الشريف أعلنت أنها ما رأت إلّا جميلاً في ذلك اليوم، الذي ليس كمثله يوم في تاريخ
الإنسانيّة؟! كان يردّد دائماً:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ (البقرة: 216). الخير كله ينزله الله تعالى مع كلّ طلقة
رصاص، والحرب تكتب التاريخ وترسم الجغرافيا وترفع الأمجاد وتصنع الكرامات.
أصدر الأمر بالتقدّم بعد إشارة غرفة العمليّات، وانطلق أمامهم كالأسد يثب بين
الدخان، موجّهاً بندقيّته.
وبينا هو كذلك، انطلقت رصاصة من مبنىً بعيد، وتوجّهت مباشرة إلى صدره فاخترقت قلبه
قبل أن يصل بدنها الفارغ من لافظ البندقيّة إلى الأرض.
* سرّ النور
فتح "كرّار" عينيه وحاول جاهداً أن ينظر ليميّز القادمَ نحوه. كان الدّخان يملأ
المكان.
حاول التركيز أكثر مصوّباً سلاحه نحو القادم المجهول... هل هو أحد الإخوة جاء
ليسحبه إلى الخطوط الخلفيّة، أم أنه عدوّ جاء ليأسره؟!
كان يتنفّس بصعوبة، واضعاً يده اليسرى على قلبه، وعاكفاً على الزناد باليمنى.
فجأةً، حصل صفاء مدهش، واختفى غبار الدخان وصُمَّت الأصوات هل انتقلتُ إلى العالم
الآخر؟!! سأل "كرّار" نفسه الموقنة. كان النور المقبل نحوه واضحاً الآن بشدّة...
ابتسم مذهولاً. ما زال يجهل هل هو في الجنّة أم لا زال على الأرض، ولكنه عرف الآن
سرّ هذا النور.
جرت دموعه دافقةً على خدّيه.. كانت حرارتها أشدّ بكثير من لهب الرصاصة المغروسة في
قلبه.
* السلام عليك يا أبا عبد الله
السلام عليك يا أبا عبد الله الحسين... صدح بصوت خاشعٍ انبعث من أعماق فؤاده الذي
عاد ينبض بشكل عجيب. لم يعد يشعر بالعطش الشديد وكأنّه ارتوى من أعذب كأس في
الوجود.
تذكّر صوتاً عزيزاً على قلبه: "نحن في حزب الله لم نخف يوماً من الموت ولن نخاف
في يوم من الأيام من الموت. نحن في حزب الله نبحث عن الشهادة لنلحق بسيّدنا العظيم
أبي عبد الله الحسين عليه السلام".
لبيك يا ابن رسول الله... ها أنا اليوم ألتحق بركب الحسين والشهداء.
صار النور قريباً جدّاً.. وكان الصوت يهمس في أذنه بوضوح. علم "كرّار" أنّه ما زال
في عالم الدنيا، ولكن ليس لوقتٍ طويل... "الله أكبر.. الله أكبر" علا صوت أذان
الفجر من مئذنة مسجد القرية، فتح "كرّار" عينيه منتفضاً، ما زال الذهول مرتسماً على
وجهه، والصوت يتردّد في أعماقه فيرتجف كلّ بدنه: "الله أكبر".. ردّد مع المؤذن.
نظر حوله.. استجمع كلّ الأحداث للحظات. نهض وتوضّـأ وصلّى الفجر. قرأ القرآن
والزيارة، وجلس على سجّادته يتفكّر.
* رؤيا مختلفة
لم تكن هذه الرؤيا هي الأولى بالنسبة إلى "كرّار".. ما زال يذكر عندما رأى قبّة
مقام ذهبية يرفرف فوقها علم أحمر، ورأى أياديَ سوداء طويلة الأظفار كأنها الأنياب
المتوحشة ملطّخة بالدماء، تحاول أن تصل إلى الراية وتمزّقها. صار "كرّار" يصرخ ويقف
ليمنعهم من الوصول حين أيقظته زوجته... لكنّ رؤيا اليوم كانت مختلفة.
أشرقت الشمس ولم يكن "كرّار" يحتاج إلى أكثر من هذا الوقت، ليفكّر كيف سيرتـّب
أموره. اطمأنّ على أطفاله.. قبّلهم.. أحسّت زوجته عليه. كان الأمر عاديّاً حتّى
الساعة؛ فحسين دائماً يودّع أولاده قبل كلّ التحاق.
تفقّد وصيّته، قرأها بسرعة، وأضاف عليها بعض الملاحظات المهمّة. لم تشأ فاطمة أن
تقاطعه، فقد كان يبدو شديد التركيز في هذه اللحظات. لكن ملامح وجهه الذي زاد
نورانيّة هذا الصباح، والأفكار التي شعّت كالنجوم في عينيه المحمرّتين من شدّة
البكاء، أجبرتها على السؤال.
تردّد حسين في الإجابة.. لم يكن يعرف هل يُبقي سرّه لنفسه أم يُشاركه مع أحبّ الناس
إليه.
﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 11) قال في نفسه: وهل هناك نعمة أعظم من هذه
الكرامة والبشرى؟! فاطمة زوجتي امرأة مؤمنة وصابرة...
* ستكونين معي في الجنّة
لم تستطع فاطمة احتباس دمعتها.. ما سمعته كان مدهشاً ومؤثـّراً... استرجعت...
احتضنت زوجها بحرارة... وكما أوصاها أوصته... أوصاها بالصبر والتأسّي بزينب، وأوصته
بالغريبة زينب.
ابتسمت ممازحة: هذه المرّة ستزورها من دوني.
- ستكونين معي في كلّ أسفاري.. سأنتظرك في كلّ سماء، ولن أسكن الجنّة إلّا التي
فيها تكونين... ودّعها بحرارة ومضى...
لم تكن فاطمة تنتظره هذه المرّة... كانت تنتظر الخبر اليقين الذي كانت تعرفه فعلاً.
انتاب الإخوة قلق وحيرة... كيف سنخبر عائلة الشهيد؟! المسألة لا تتعلّق فقط
باستشهاد "كرّار" ولكن...
ابتسمت فاطمة، وأرشدتهم إلى المكان الذي أوصى حسين أن يُدفن فيه، مع أنّها تعلم أنّ
جسده ما زال حتى اللّحظة مع العدوّ.
* اللهمّ بحقّ زينب..
تذكّرت كلماته جيّداً، والدموع تترقرق في عينيها كالسحاب، مسلّمة لله أمرها:
"فاطمة... لقد رأيت الإمام الحسين في عالم الرؤيا... كان حاضراً معنا في
المعركة... وكنت أقاتل العدوّ وأصرخ يا حسين، يا زينب... حتّى جُرحت وسقطت على
الأرض، فأتى الإمام فسلّمت عليه، فأنبأني بأنّي سأخوض هذه المعركة نفسها غداً مع
رجال أشدّاء أولي بأس، وقال: سوف تستشهد عطشانَ مثل أصحابي، وسيأتي العدوّ ويحتزّ
رأسك...".
نزلت دمعة فاطمة وهي تلتفت إلى الشرق... إلى ذلك المقام البعيد: "السّلام على الرأس
المقطوع... السّلام على الحوراء الغريبة"... ثمّ توجّهت إلى القبلة: "اللهمّ
بحقّ زينب تقبّل منّا هذا القربان".
فجأةً، حصل صفاء مدهش، واختفى غبار الدخان وصُمَّت الأصوات.. هل انتقلتُ إلى العالم
الآخر؟!!