نهى عبد الله
لم تكن المرّة الأولى التي تودّعه فيها. لطالما أوصته
بالاهتمام بنفسه والابتعاد عن المخاطر، رغم خطورة عمله التي كانت تتعامل معها
بوداعة طفوليّة حين تمازحه: "عندما تنهي تعليمي الأحكام الدينيّة كما وعدتني،
يمكنك الاستشهاد كما تحب"... كان دائماً يختفي مبتسماً، لكن هذه المرّة قال
بجديّة لم تعهدها: "وعدتك بذلك، وحتى لو استشهدت.. سأفي".
مضت أشهر الشتاء قاسية على "زينب"، دون خبر عن "صادق"... أخذتها الذكريات، حين قدّم
لها ابن الخامسة عشرة "حجاباً وسجّادةَ صلاة" هديةَ عامها التاسع، وحين علّمها
الوضوء غُسلاً للقلب، والصلاة لقاءً مع الله، والدعاء حديثَ سرّ ومناجاةَ عشق..
كبرا معاً، تعاهدا حين زواجهما على زراعة الآخرة، ليكونا في ثلّة الصالحين معاً..
"لكنّني ما زلت بحاجة إليه، لديّ الكثير من الأسئلة، سأضيع دونه حتماً...". هكذا
حدّثت نفسها لتطمئنّ، لكن محال، هناك خبرٌ قرأه القلب، اشتدّ على وقع طرقات
الباب... استشهد صادق!
بعد أسبوع، جلست صباحاً عند قبره تحدّثه ككلّ يوم، قاطعها أحد المعزّين وسلّمها
رسالة، مكتوب عليها "من صادق.. إلى زوجتي" بتاريخ اليوم! فتحتها بدهشة:
"وعدتك أن أُنهي ما بدأته في تعليمك الواجب من مسائل الدين
ومعرفة الله، ولو بعد الشهادة، فأعددت لك ثلاثين رسالة مما وفّقني الله، حتّى
يُسخّر الله لك غيري من عباده، وعليك تحصيل ما يبقى. ستصلك الرسائل بتاريخها. إن
وصلتك رسالتي هذه، فقد باتت نصف روحي عند بارئها، ونصفها الآخر معك، احرصي أن يجتمع
النصفان في قرب الله"(*).
وبقيت رسائل صادق تصلها لأكثر من ستّة أشهر، وفاءً بوعده... كأنّها آتيةٌ من
الغيب.
(*) مقتبسة عن سيرة
أحد شهداء 1983م.