السيّد علي عبّاس الموسوي
من أعظم الصفات التي يتحلّى بها الإنسان، والتي تكون مثاراً للإعجاب والتقدير من الصديق والعدوّ، أن يكون صادقاً. والمراد من الصدق هنا ليس الصدق في الإخبار عن الأحداث والوقائع، وليس حتّى الوفاء بالوعود والعهود والمواثيق، بل المراد الصدق مع النفس.
الصدق مع النفس، أن يكون الإنسان منسجماً مع ما يرى أنّه الحق، فلا يخدع نفسه ولا يخادعها، حتّى يجعلها تخالف ما تؤمن بوجدانها، وفي داخلها، أنّه الحقّ. الإنسان الذي يبادر إلى الاعتراف للآخر بالفضل عندما يراه أهلاً لذلك، ويتجاوز كلّ أنا في ذاته تريد الحيلولة أمام ذلك، والإنسان الذي يُبادر إلى الإقرار بما للآخر من حقّ متى تحقّقت القناعة في داخله بذلك، هو الإنسان الصادق مع نفسه.
قد نجد الكثير من مفردات الصدق مع النفس في علاقات الناس بعضهم ببعض، في حالات مختلفة من الصداقة والعداوة، وفي صغير الأمور وكبيرها، ولكن ما يستحقّ أن نتوقّف عنده، هو صدق الإنسان مع نفسه عندما يرى الحقّ في المعتَقَد، وفي الدين، وفي الرؤية المرتبطة بالحياة والكون.
كلّ إنسان يولد في بيئة، فيتأثّر بها وتسهم بشكل رئيس في بناء قناعاته ورؤيته، ويبقى، نظراً لقصور فيه، لسنوات متمادية لا يسمع رؤى أخرى أو لعلّه يسمع بطلانها وأنها ليست حقاً، بل قد تبني له بيئته رؤية سلبيّة تماماً تجاه تلك الرؤى. وعندما يكتمل هذا الإنسان فلا يعود للقصور الذي كان يعيشه من تأثير، ولا للبيئة التي كان في داخلها من هَيْمنة على عقله وفكره، فينطلق في التفكير بما يحيط به من خيارات ترتبط بالمصير الذي سوف يصل إليه، وسوف يكون حاله عليه.
وهنا، تبرز صفة الصدق مع النفس بوضوح، وتتجلّى في الموقف الذي يتّخذه هذا الإنسان مقاوماً كلّ الموانع وصلباً في السعي لما فيه الخير لنفسه وما فيه الصلاح، عندما يقدم بوضوح على تغيير كلّ شيء لأنه أدرك تماماً الحقّ. ولا يمكنه أن يُغفِل هذا الحقّ، أو يدفن رأسه في التراب كأنّه لم يره.
الصدق مع النفس، هنا، يشكّل باب نجاة، ولن يكون من السهل الالتزام والعمل به، وذلك لأنه يؤثّر في مصير الإنسان ويشكّل خروجاً عن كلّ مألوف عاشه لسنوات متمادية، ولا يرتبط كما أسلفنا بعلاقة اجتماعية محدّدة أو تحمّل بعض المواقف السلبيّة، بل في الصدق مع النفس هذا تغيير مسار حياة وطريقة عيش.
لا شكّ في أنّ هذا الأمر يتّضح جليّاً عندما يرتبط الأمر بالدين، أي بالديانة التي يعتقد بها، فهو قد وُلد في إطار ديانة كان يؤمن بها أبواه، تربّى في ظلّها وعاش كلّ أعرافها وتقاليدها وممارساتها. ولكنه بعد أن عرف الحقّ يريد الخروج من هذا كلّه، ولن يدفعه إلى ذلك إلّا أن يكون صادقاً مع نفسه، حيث يرى الحقّ فلا يتوانى عن المجاهَرة به.
عندما يستمع الصادق مع نفسه للحقّ يتأثّر بذلك في عقله وقلبه، فقد رأى الحقّ فكيف يدعه؟ وقد استبصر الهدى فكيف لا يميل قلبه إليه؟ بل كيف لا يلين هذا القلب حتى يذهب مع هذا الحقّ حيث يشاء أن يأخذه فيُقدم على الإيمان بالهدى وقد أثّر في كيانه فجعله يسأل الله عزَّ وجل أن يجعله من الشاهدين بالحقّ؟ وقد حكى عنهم القرآن في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (المائدة: 83).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.