الشيخ خليل رزق
درجت عادة العلماء عند الحديث عن تكاليف المؤمنين في عصر
غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف على ذكر جملة من الأعمال والآداب
المستحبّة التي ينبغي الإتيان بها في زمن الغيبة. ولعلّ الهدف الأساس من التأكيد
على بعض الأعمال هو بسبب ما لها من دلالات عباديّة وتربويّة. حيث إنّها تعمل على
تفعيل الارتباط بالإمام المعصوم، الذي يمثّل بوجوده المقدّس حبل الاتّصال بالنبيّ
الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن الكريم بمدلول حديث الثقلين، فضلاً عن كونه
الدليل إلى الله سبحانه وتعالى لمعرفته وعبادته كما أراد وأمر.
*الارتباط بالإمام صمّام الأمان للأمَّة
وهذا الارتباط يشكّل صمّام الأمان للفرد وللأُمّة، فيمنعها من الانحراف والضلال،
ويهديها سبيل الرشاد.
ومن المدلول العباديّ ترتقي الأمّة إلى الجانب الولائيّ الذي ينبغي أن يكون قائماً
بين الأمّة وإمامها، لأنه، وبحسب المعتقد الشيعيّ، يُعتبر الإمام المعصوم المرجع
الأعلى للأمّة في كلّ شؤونها بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. ويعتلي منصب
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بكلّ أبعاده عدا الوحي من السماء. فالإمامة امتداد
للنبوّة من حيث وظائفها العامّة، عدا ما يتّصل بالوحي. والمقصود بالامتداد في مسألة
الإمامة هو في مسألة حِفظِ الشريعة ليس إلّا، فالإمامة منصب إلهيّ ترتبط الأمّة به
بنفس المستوى الذي ترتبط به مع النبوّة. ومن هنا، كان التأكيد من النبيّ صلى الله
عليه وآله وسلم على مودّة أهل البيت عليهم السلام. وليست المودّة شأناً عاطفياً
محضاً بقدر ما هي ارتباط بالنهج والطريق. ومن هذا المنطلق، أيضاً، أكّدت الروايات
على ضرورة الارتباط بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في عصر غيبته،
واعتُبر ذلك تكليفاً عامّاً.
*الانتظار من التكليف
ونظراً لخصوصيّة الغيبة التي انفرد بها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف،
واختصّ بها من بين سائر الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وردت النصوص الشريفة التي
منها استقى العلماء نظريّة، ما تمّ التعبير عنه، تكاليف المسلم في عصر الغيبة، وهذه
التكاليف متنوّعة، فمنها:
- تكاليف قلبيّة، جوارحيّة، ومنها لسانيّة وماليّة، مثل:
- انتظار الفرج وترقّب ظهور وقيام الدولة القاهرة والسلطنة الظاهرة لمهديّ آل محمّد
عليهم السلام وامتلاء الأرض قسطاً وعدلاً.
روى الشيخ النعمانيّ في كتاب (الغيبة) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من
مات منكم على هذا الأمر منتظراً كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم عجل الله تعالى
فرجه الشريف "1.
- الدعاء لحفظ وجود إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
- التصدّق لحفظ وجوده المبارك.
- الدعاء والتضرّع إلى الله تعالى لحفظ الإيمان والدين من تطرّق شبهات الشياطين
والزنادقة.
روى النعماني في (الغيبة) عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسّك فيها بدينه كالخارط لشوك القتاد بيده، ثمّ
أطرق مليّاً، ثمّ قال: إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة فليتّقِ الله عبدٌ، وليتمسّك
بدينه"2.
- العزم على الجهاد بين يديه.
- إحياء أمره بين الناس.
- الاستغاثة به... وغير ذلك من التكاليف والآداب المذكورة في محلّها.
*مفهوم الانتظار وشروطه
ونحن لا نملك أيّ نقاش وجدال في مدلولات هذه التكاليف لما لها من آثار فرديّة
واجتماعيّة.
ولكنّ ذلك لا يمنعنا من التأكيد على ضرورة تصحيح المفهوم والمراد من تكليفين
أساسيين من هذه التكاليف، وتوجيههما في الإطار السليم والصحيح؛ نظراً لوقوع
الالتباس في فهمهما، وانعكاس ذلك على السلوك العامّ للمؤمنين بالإمام المهديّ عجل
الله تعالى فرجه الشريف، ونقصد بهما:
أولاً: مفهوم الانتظار.
ثانياً: مفهوم علامات الظهور وشروطه.
الانتظار للمهديّ المنقذ لا يختصّ بالشيعة، بل تواترت الروايات فيه من طرق السُنَّة
بأسانيد صحيحة ومستفيضة لا يمكن التشكيك فيها كما وردت من طرق الشيعة الإماميّة.
وهذا المفهوم له قيمة مهمّة في النظرة الإسلاميّة، ولكنّ المشكلة هي في طريقة فهمه،
حيث يمكن أن يُنظر إليه بنحوٍ سلبيّ وكعامل للتخدير والإعاقة عن القيام بالواجبات
الشرعيّة. وفي مقابل ذلك قد يُفهم بطريقة إيجابيّة تجعل منه عاملاً من عوامل
التحريك والنهضة والأداء للتكليف الشرعيّ. ولتوضيح الالتباس في فهم معنى الانتظار
نقول:
قد ينظر البعض إلى الانتظار كما لو كان الغريق ينتظر وصول فريق الإنقاذ إليه من
الساحل ويراهم مقبلين إليه لإنقاذه. فإنّه من المؤكّد أنّ الغريق لا يستطيع أنّ
يقدّم وصول فريق الإنقاذ إليه، إلّا أنّه من المؤكّد أيضاً أنّ هذا الانتظار يبعث
في نفس الغريق أملاً قويّاً في النجاة.
والأمل يمنح الإنسان "المقاومة" الضرورية، فيواصل الغريق المقاومة حتى يصل فريق
الإنقاذ إليه.
لكننا نريد من الانتظار ما هو أعمق من هذا وأوسع، وليمنحنا ليس الأمل فقط، بل
الحركة الواعية وبذل الجهد في سبيل النجاة والخلاص، وعدم الاقتصار على انتظار
المنقِذ والمنجي.
فالتفسير الصحيح للانتظار هو أنّه حركة وفعل وجهاد وعمل3. يصنعه رجالٌ رُهبانٌ
باللّيل ليوثٌ بالنهار، هم في علاقتهم مع الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف أطوع
من الأَمَة لسيّدها، كالمصابيح في قلوبهم القناديل، وهم من خشيته مشفقون، يدعون
بالشهادة، ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله. بهم ينصر الله إمام الحقّ4.
*لا يسقط تكليفاً ولا يؤجّل عملاً
فمبادئ الإسلام تأمر بالدعوة إلى الله وتوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحثّ
على هداية الناس، والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر. هذه المبادئ هي مبادئ عامّة
وشاملة تسري على كلّ زمان، وتلزم كل جيل، وغيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه
الشريف لا تعني نسخ هذه المبادئ ولا تجميد مفعولها.
يقول العلّامة المظفّر قدس سره: "وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد، ونذكّر أنفسنا
به، أنه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ (المهديّ) أن يقف المسلمون مكتوفي
الأيدي فيما يعود إلى الحقّ من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله،
والأخذ بأحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل المسلم أبداً مكلّف بالعمل
بما أُنزل من الأحكام الشرعيّة، وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق
الموصلة إليها حقيقة. وواجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ما تمكّن من ذلك
وبلغت إليه قدرته (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته). فلا يجوز له التأخّر عن
واجباته بمجرّد الانتظار للمصلح المهديّ، والمبشر الهادي، فإنّ هذا لا يسقط تكليفاً،
ولا يؤجّل عملاً"5.
*علامات الظهور والشروط
وقد أجاد العلّامة الراحل الشهيد محمّد الصدر في بيان الفرق بين مسألتي علامات
الظهور وشروطه عندما أشار إلى الخلط الواقع بينهما حيث ذُكر أنّ هذين المفهومين (أي
العلامات والشروط) يشتركان بأنهما معاً ممّا يجب تحقّقه قبل الظهور، ولا يمكن أن
يوجد الظهور قبل تحقّق كلّ الشرائط والعلامات.
فالشرائط هي عبارة عن عدّة خصائص، لها التأثير الواقعيّ في إيجاد يوم الظهور والنصر
وإنجاز الدولة العالميّة، ولولاها لا يمكن أن يتحقّق ذلك.
أمّا العلامة، فليس لها من دخل سوى الدلالة والإعلام والكشف عن وقوع الظهور بعدها،
مثالها مثال هيجان الطيور الدالّ على وقوع المطر أو العاصفة بعده من دون أن يقال:
إنّ العاصفة لا يمكن أن تقع بدون هيجان الطيور.
وهذا هو الذي نجده في علامات الظهور، فإنّه يمكن تصوّر الظهور بدونها ولا يلزم من
تخلّفها انخرام سبب أو مسبّب.
لذلك يمكن لليوم الموعود أن يتحقّق سواء وجدت العلامات أو لم توجد، وإنّما هي أمور
جُعلت من قبل الله سبحانه وتعالى وبُلّغت إلى البشر من قبل الأئمّة عليهم السلام
بصفتها دوالّ وكواشف عن قرب الظهور.
*العلامات شأن إلهيّ
ونخلص إلى نتيجةٍ مهمّة وأساسيّة على مستوى التكليف وهي أنّ قضية العلامات لا دخل
للبشر فيها، ولا علاقة لهم بها، وإنّما هي أمور بيد الله سبحانه وتعالى يضعها أو
يزيلها وفقاً للمصلحة.
وبتعبير آخر هي شأن إلهيّ لا بشريّ. يصنعها الله تعالى وليس الإنسان. أمّا الشروط
فهي على العكس تماماً؛ باعتبارها تكليفاً إلهيّاً يصنعه الفرد والأمّة، وعليهم
السعي لتحقيقها وإيجادها وتوفيرها. ومتى ما اكتملت وتحقّقت، فإنّ الله تعالى يضع
بين أيدينا ذلك الوعد الذي قطعه للمؤمنين والصالحين بقوله تعالى:
﴿وَنُرِيدُ أَن
نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾(القصص: 5
- 6).
إنّ يوم الظهور المبارك منوط بإرادته سبحانه وتعالى، وهو الذي يأذن للإمام عجل الله
تعالى فرجه الشريف بالخروج والظهور في اليوم الموعود، ولكنّ ذلك منوط بتحقيق شروطه
وموجباته من قبل الأمّة لينتشر العدل الكامل في أرجاء الدنيا ويتحقّق على يديّ
الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
1- الغيبة، النعماني، ص200، باب
11، ح15.
2- م.ن.، ص169، باب 10، ح11.
3- الانتظار الموجّه، دراسة في علاقة الانتظار بالحركة، الشيخ محمد مهدي الآصفي،
ص29.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج52، ص307.
5- عقائد الإمامية، العلّامة محمد رضا المظفر، ص80.