الشهيد السيّد عبّاس الموسوي قدس سره
في العدد السابق، بيَّنَّا حال المتّقين وأوصافهم في اللّيل، حسبما جاء في خطبة
المتّقين لأمير المؤمنين عليه السلام، ونتابع في هذا العدد حالهم في النهار.
*في النهار... حلماء أتقياء
"وأمّا النهار فحلماءٌ، عُلماء، أبرارٌ، أتقياء، قد براهم الخوف، الخوف من الله،
بريَ القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبُهم مرضى وما بالقوم مرضٌ". مَنْ يَرَهُمْ
يَقُلْ: "قد خولِطوا إنّهم مجانين، ولقد خالطهم أمرٌ عظيم".
ولكن ما هو الشيء العظيم الذي خالط هؤلاء المتّقين؟ هنا يأتي الكلام عما يقوم به
الإنسان، المتّقي لله... فهؤلاء لا يرضون من أعمالهم القليل. يُتعبون أنفسهم كثيراً،
وتجدهم في حالة من التّعب يظنها الرائي مرضاً أو أصابهم شيء من الاختلاط بالعقل،
يعني الجنون. إنّهم "لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم
مُتّهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إذا زُكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له، فيقول: "أنا
أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون واغفر لي
ما لا يعلمون"1.
*هم لأنفسهم متّهمون
"أمّا النهار فحلماءٌ علماء". المؤمن حليم. المؤمن لا يغضب، وإذا غضب يغضب لله فقط.
فهم حلماءٌ، ويخافون الله. حساسيّة هؤلاء المتّقين حساسيّة بالغة: "فهم لأنفسهم
متَّهمون دائماً"، ولا ينزّهون أنفسهم عن العيوب، لأنه بمجرّد أن يقول الإنسان "أنا
منزّه عن العيوب"، يعني فيه كلّ العيوب، ويكفيه أنّه لا يعرف عيب نفسه.
"وهم من
أعمالهم مشفقون"، يعني خائفون، "لا يستكثرون الكثير"، مهما عملوا ومهما صنعوا من
خيرات في سبيل الله يرون أنَّ عملهم قليل، من أجل الله وفي سبيل الله، ويصلون إلى
مستوى من الخوف من الله. هذه المسألة طبيعيّة عادةً في حياة الناس، ولكن نادراً ما
يُلتفت إليها. فالمديح أشبه بالخمرة يسكر منها الإنسان، وإذا قلنا لأحد كلمات
الإطراء والمديح وصدّق نفسه أخذته حالة الغرور. أمّا الإنسان المتّقي الذي يخاف
الله، إذا زُكّي أو مُدِح، خاف ممّا يُقال له، فيقول: "اللَّهمّ إنّي أعلم بنفسي من
غيري، وربّي أعلم منّي بنفسي، اللَّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا
يعلمون". هؤلاء يرون ظاهري فيمدحونني على أساسِ الظاهر، أمّا ما أُخبّئه من أعمال
سيِّئة فلا يعرفونها. أسألك يا ربّ أن تغفرها، واغفر لي ما لا يعلمون.
*ليلة العاشر من المحرّم
انظروا إلى هذا البرنامج التربويّ كيف كان يطبّقه الإمام الحسين عليه السلام
وأصحابه في كربلاء، برنامج عليّ عليه السلام. تقرأون في السيرة الحسينيّة عن ليلة
العاشر مِنَ محرّم، ليلة البكاء بين يدي الله، أنّ الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل
بيته عليهم السلام كانوا بين قائمٍ يصلّي، وبين تالٍ لكتاب الله العزيز، وبين
مستغفر طوال الليل. كانوا يبكون ويدعون ويصلّون، فقد كانت ليلة الودَاع. لقد اعتبر
أصحاب الحسين أنَّ ذاك الزمن كان آخر ليلة لهم في هذه الحياة الدنيا، ويجب أن
تُقضَى بالعبادة لله ربّ العالمين. قَضَوا الليل بأكمله في العبادة، ثم برزوا في
النهار، برز علمهم وحلمهم قبل سيفهم، "حلماء علماء".
لقد أصرّ الإمام الحسين عليه السلام على أن يعظ القوم ويعلّمهم. كان يذهب إليهم،
يخطب بهم، يُبرز علمه للملأ، يذكّرهم بالقرآن، وبوصايا رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، ثم عندما يتعب يقول لأخيه العباس عليه السلام: اذهب علّم القوم، عِظْ
القوم. يرجع العباس عليه السلام فيرسل حبيب [بن مظاهر]، وهكذا علماء يعلّمون الناس
ويعتبرون تعليم الناس ووعظ الناس مسؤوليّة شرعيّة.
*لا تبخلوا بما تعلمون
بكلّ صراحة، أقول لكم أيّها المؤمنون، أيتها المؤمنات، قد تصل بنا المسألة أحياناً
إلى حدٍّ نحرم فيه زوجاتنا من الوعظ والإرشاد، فلماذا؟ لماذا نحرم أهلنا، من العلم،
ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ العلم ما تعرفه ولو كان (ثلات) معلومات، أربع
معلومات، لا تقل: هذا قليل، بل علّمه زوجتك، علّمه أطفالك، علّمه جيرانك، علّمه (رفاقك
ولا تقل أنا أعمل وكفى...) اكتفيت بنفسي. العالِم الذي يَكتُم علمه يلعنه الله حتّى
لو كانت معلوماته بسيطة جداً.
*حلماء علماء
كان حلم الحسين عليه السلام بارزاً واضحاً في كلّ مراحل السيرة الحسينيّة. عندما
وصل الحسين عليه السلام إلى نينوى، إلى كربلاء، وصل الحرّ [بن يزيد الرياحي] على
رأس عسكره أيضاً. وكان الحرّ وعسكره لا يملكون الماء. أحد صحابة الإمام الحسين عليه
السلام اقترح الانقضاض عليهم، خاصّة، وأنّ هؤلاء الأصحاب كانوا يتخوّفون من مجيء
الجند من الشام ومن الكوفة لدعم هذا العسكر الذي بين يدي الحرّ. الحسين عليه السلام
رفض مقالة الرجل وقال عليه السلام: "لا أبتدئهم بقتال"، ثم أمر لهم بالماء فسقاهم
جميعاً. كانوا عُطاشى. الإنسان المؤمن يتعامل بأخلاقيّة إسلاميّة عالية، "حلماء
علماء"، حتّى في أشدِّ الظروف وأتعسها يتعامل الإنسان المؤمن على أساسٍ من
الأخلاقيّة الإسلاميّة.
*برنامج خطبة المتّقين
برنامج عليّ بن أبي طالب عليه السلام في خطبة المتّقين، ليس برنامجاً للحسين عليه
السلام، ولأصحاب الحسين عليه السلام، ولأهل بيت الحسين عليه السلام. هو برنامجٌ
للمؤمنين على امتداد التاريخ. ولا يعتقدنَّ أحد أنه يستطيع أن يربّي نفسه أو يصفّي
نفسه من خلال بعض العبادات البسيطة والخفيفة، [لا] سيَّما إذا كان يمارس هذه
العبادات كعادة لا كعبادة. بعض الناس يقومون بأداء صلاة الصبح والظهر والعصر
والمغرب والعشاء لأنهم اعتادوا أن يصلّوا الصلوات الخمس. يجب أن نتربّى على [أن]
نقوم في اللّيل نصلّي صلاة اللّيل ونقرأ بعض الآيات القرآنيّة ولو لليلة في الأسبوع.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإيمان والالتزام. ربَّنا أَفرِغ علينا صبراً، وثبِّت
أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، والحمد لله ربّ العالمين.
1- نهج البلاغة، خطبة (193).