اعلم أنّ السيطرة على الخيال أول شرط للمجاهد في مقام
جهاد النفس والمقامات الأخرى. والذي يمكن أن يكون أساس الغلبة على الشيطان وجنوده،
هو حفظ طائر الخيال، لأنّ هذا الخيال طائرٌ محلّقٌ يحطّ في كلّ آن على غصن، ويجلب
الكثير من الشقاء، ولأنّه من إحدى وسائل الشيطان التي جُعل الإنسان بواسطتها مسكيناً،
عاجزاً، وتدفع به نحو الشقاء.
*مع المراقبة يصبح يسيراً
فعلى الإنسان المجاهد، الذي نهض لإصلاح نفسه، وأراد أن يصفّي باطنه، ويفرغه من جنود
إبليس، أن يمسك بزمام خياله، وأن لا يسمح له بأن يطير حيثما شاء. وعليه أن يمنعه من
التحليق في الخيالات الفاسدة والباطلة، كخيالات المعاصي والشيطنة، وأن يوجّه خياله
دائماً نحو الأمور الشريفة. هذا الأمر، ولو أنّه قد يبدو، في البداية، صعباً بعض
الشيء، ويصوّره الشيطان وجنوده لنا وكأنّه أمر عظيم، ولكنّه يصبح يسيراً، بعد شيء
من المراقبة والحذر.
إنّ من الممكن لك -من باب التجربة- أن تسيطر على جزء من خيالك، وتنتبه به جيداً.
فمتى ما أراد أن يتوجّه إلى أمر وضيع، اصرفه نحو أمور أخرى كالمباحات أو الأمور
الراجحة الشريفة. فإذا رأيت أنّك حصلت على نتيجة، فاشكر الله تعالى على هذا التوفيق،
وتابِع سعيك، لعلّ ربّك يفتح لك برحمته الطريق أمام الملكوت، وتهتدي إلى صراط
الإنسانيّة المستقيم، ويسهّل عليك مهمّة السلوك إليه سبحانه وتعالى.
*احذر كيد اللّعين
وانتبه إلى أنّ الخيالات الفاسدة، القبيحة، والتصوّرات الباطلة هي من إلقاءات
الشيطان، الذي يريد أن يوطّن جنوده في مملكة باطنك. فعليك أن تحذر كيد هذا اللّعين،
وأن تبعد عنك هذه الأوهام المخالفة لرضا الله تعالى، حتى تنتزع -إن شاء الله- هذا
الخندق المهمّ جداً من يد الشيطان وجنوده في هذه المعركة الداخليّة. فهذا الخندق
بمنزلة الحدّ الفاصل، فإذا تغلّبت هنا فتأمّل خيراً.
أيها العزيز... استعن بالله تبارك وتعالى في كلّ آن ولحظة، واستغث بحضرة معبودك،
واطلب منه بعجز وإلحاح... كي تستطيع أن تجابه هذا العدوّ القويّ.
* معالجة المفاسد الأخلاقيّة
أيّها العزيز... تنبَّه من غفلتك، واشدد حيازيم الهمَّة، واغتنم الفرصة ما دام هناك
مجال، وما دام في العمر بقيَّة... ولم تتغلّب عليك -بعد- الأخلاق الفاسدة، ولم
تتأصّل فيك الملكَات الرذيلة، فابحث عن العلاج، واعثر على الدواء لإزالة الأخلاق
الفاسدة والقبيحة، وتلمّس سبيلاً لإطفاء نائرة الشهوة والغضب...
أفضل علاج لدفع هذه المفاسد الأخلاقية، ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن
تأخذ كلّ واحدة من الملكَات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزم على مخالفة
النفس إلى أمد، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلّبه منك تلك المَلَكة الرذيلة.
وعلى أيّ حال؛ اطلب التوفيق من الله تعالى لإعانتك في هذا الجهاد، ولا شكّ في أن
هذا الخلق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة، ويفرّ الشيطان وجنوده من هذا الخندق، وتحلّ
محلّهم الجنود الرحمانيّة.
فمثلاً، من الأخلاق الذميمة التي تسبّب هلاك الإنسان، وتُوجب ضغطة القبر، وتعذّب
الإنسان في كلا الدارين، سوء الخُلق مع أهل الدار والجيران أو الزملاء في العمل...
وهو وليد الغضب والشهوة. فإذا فكّر الإنسان المجاهد في السموّ والترفّع، عليه -عندما
يعترضه أمر غير مرغوب فيه حيث تتوهّج فيه نار الغضب لتحرق الباطن، وتدعوه إلى الفحش
والسيّئ من القول- أن يعمل بخلاف النفس، وأن يتذكّر سوء عاقبة هذا الخلق ونتيجته
القبيحة، ويبدي بالمقابل مرونة ويلْعن الشيطان في الباطن ويستعيذ بالله منه.
*الغضب هلاك الدارين
إنني أتعهّد لك بأنّك لو قمت بذلك السلوك، وكرّرته مرات عدّة، فإنّ الخُلق السيّئ
سيزول كليّاً، وسيحلّ الخُلق الحَسن في عالمك الباطن، ولكنك إذا عملت وفْق هوى
النفس، فمن الممكن أن يبيدك في هذا العالم نفسه، وأعوذ بالله تعالى من الغضب الذي
يهلك الإنسان في آن واحد في كلا الدارين... ومن الممكن أن يتجرّأ الإنسان في حالة
الغضب على النواميس الإلهيّة، كما رأينا أنّ بعض الناس قد أصبحوا من جرّاء الغضب
مرتدّين. وقد قال الحكماء: "إنّ السفينة التي تتعرّض لأمواج البحر العاتية وهي بدون
قبطان، لهي أقرب إلى النجاة من الإنسان وهو في حالة الغضب".
وعلى أيّ حال ينبغي للإنسان أن يأخذ بنظر الاعتبار الأخلاق القبيحة الفاسدة
باعتبارها واحدة، ويخرجها من مملكة روحه بمخالفة النفس. وعندما يخرج الغاصب، يأتي
صاحب الدار نفسه، فلا يحتاج - حينذاك - إلى مشقّة أخرى أو إلى وعود.
*مسكن ملائكة الله
وعندما يكتمل جهاد النفس في هذا المقام، ويتوفّق الإنسان إلى إخراج جنود إبليس من
هذه المملكة، وتصبح مملكته مسكناً لملائكة الله، ومعبداً لعباده الصالحين، فحينذاك
يصبح السلوك إلى الله يسيراً... وينظر الله تبارك وتعالى إليه بعين اللّطف والرحمة...
ويفتح له طريقاً إلى باب المعارف الإلهيّة - وهي غاية خلق الجنّ والإنس - ويأخذ
الله تعالى بيده في هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.