هناك احتمال لهطول المطر. لم يشأ "عليّ" أن يعود إلى منزله. كان يشعر بالضّيق ويتوق
لأن يمضي يومه في تلك الحديقة العامّة، بعيداً عن جوّ أسرته المعقّد، ومشاكلها.
كان يسير بخطى سريعة راكلاً الحجارة الصغيرة على الطريق، متمنّياً لو يغيّر واقعهُ،
خاصّة بعد فشله في دراسته! وارتخى على طرف مقعد حجريّ. تنفَّس الصعداء وغاب في
دهاليز أفكار سوداء، قبل أن تعيده إلى الواقع تحيّة شابّ، في التاسعة عشر من العمر
يجلس عند الطرف الآخر من المقعد، ويضع نظارات شمسيّة، وعلى رأسه قبّعة مخمليَّة: "السلام
عليكم"، أجابه عليّ ببرودة: "وعليكم..". أطرق الشابّ لثوانٍ ثمَّ سأله: "ولماذا
تردّ التحيَّة بألم؟" أجابه عليّ بضيق: "اتركني بالله عليك، لا يوجد أحد
أسوأ حالاً منّي، فهموم الدنيا كلّها فوق رأسي". ارتسمت على محيّا الشابّ
ابتسامة عذبة، وقال: "خير.. وما الذي جعلك تشعر بهذا الأسى؟ تأمَّل الطبيعة حولك
وستدرك أنَّ الله أكرم ممّا تظنّ. انظر إلى أغصان الأشجار تُصدر حفيفاً جميلاً
مسبّحة الباري جلّ وعلا، راقِبْ السماء والطبيعة السّاكنة التي تنتظر المطر".
التفت عليّ نحوه مستغرباً كلامه الأدبيّ. وهزَّ رأسه بسخرية محدِّثاً نفسه: يبدو
أنّه شابّ ميسور ماديّاً، هذا واضح من معطف الفرو الذي يرتديه، وتلك الابتسامة التي
لا تفارق محيَّاه. كيف لشابّ مرتاح البال أن يتفهَّم حاجات الآخرين وأحزانهم؟ شعر
بالغضب منه فلَمْ يجبه. وما هي إلّا دقائق حتى بدأت زخّات المطر تشتدّ. انتفض عليّ
من جلسته وسأل الشابّ بتعجّب: "هل ستبقى جالساً بينما تمطر؟" اكتفى الشابّ
بشدّ معطفه الثقيل على صدره وهمس: "ثوانٍ وأقوم، اذهب أنت وخفّف عن نفسك بتقدير
نِعَم الله عليك". وللمرَّة الثانية، شعر بالغضب، ولكنه اكتفى برمقه ماشياً بضع
خطوات ليقرّر فجأة أن يختبئ خلف جذع شجرة، يرقب الشابّ من بعيد.. وفجأة لاح له رجل
يهرول مسرعاً. اقترب من الشابّ قائلاً: "اعذرني يا بنيّ، لقد تأخّرت عليك، هاتِ
يدك لأساعدك". لم تتغيّر ملامح الشابّ المبتسم ومدّ يده يتحسّس الرجل، بينما
كان يتمتم: "لا بأس، الحمد لله أنّك أتيت قبل أن يشتدّ المطر". احتضنه الرجل،
ووضع فوق رأسه مظلّة كبيرة، وسارا بهدوء حتى غابا عن عينيّ عليّ اللّتين بقيتا
تشعّان انبهاراً بإيجابيَّة شابّ كفيف البصر... ونافذ البصيرة.