السيّد ربيع أبو الحسن
"فوالله لم أخشَ أحداً حتّى الآن! وحتّى في ذلك اليوم الذي أخذوني (معتقلاً)، كانوا
هم الخائفين، وكنت أنا الذي أواسيهم أن لا تخافوا!"1. الإمام الخمينيّ قدس سره.
الثقةُ بالله، كلمةٌ صغيرةٌ، لكنّها غنيّةٌ بما تحمل من بيان، فهي: من خصال أولياء
الله، وحصن المؤمن، وأقوى أمل، وأصل الرضا، وخير المال ومنجاةٌ من الهلكة.
*ثقةٌ قلَّ نظيرها
لقد تجلّت الثقة بالله في الإمام الخمينيّ قدس سره، وبرزت كسمةٍ جليّةٍ في جميع
أفعاله وأقواله ومواقفه وكلماته... فهذا الإمام السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله
يعتبره مصداق الآية الشريفة:
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)؛ إذ كان الإمام يثق بالله المتعال، ويُوقن
بوعده، فكان يتحرَّك ويعمل ويتكلَّم ويُقَدِّم في سبيل الله، ويعلم أنْ
﴿إِن
تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾ (محمّد: 7)2.
ولم تقف الثقة بالله عند الإمام الخمينيّ قدس سره، ولم يحتكرها لنفسه، فالأُمّة
الإسلاميّة أُضيئت من شعاع ثقته. ويؤكّد على ذلك سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه
الله) بقوله: "منذ أن عرفناه في انطلاقته تغيّرنا وتغيّر العالم من حولنا، فقد أحيا
الإمام في الأُمَّة روح الثقة بنفسها وبإمكانيّاتها وقدراتها وطاقاتها، وأحيا فيها
روح الأمل بالانتصار على الطواغيت والمستكبرين، مهما كان لديهم من الطاقات والقدرات"3.
وفيما يلي نماذجُ حيّة، وشاهد صدق وترجمةٌ عمليّة لثقة الإمام بربّه، وإيكاله الأمر
إليه سبحانه وتعالى.
*حتى لو واجهني الجنّ والإنس معاً
في الأيام الأولى للتحرّك الإسلاميّ في إيران، خاطب آية الله الشهيد السيّد محمَّد
رضا سعيدي الإمام الخمينيّ قدس سره بالقول: سيتركونك وحدك! فأجابه الإمام: "لن
أغيِّر كلامي حتّى لو واجهني الجنُّ والإنس معاً"4.
وعندما هاجم رجال السافاك بيت الإمام في قمّ لاعتقاله، وفتحوا باب بيته بكلّ قسوة،
صرخ سماحته بوجههم: "لا تركلوا الباب. غادروا البيت بسرعة، وأنا سألتحق بكم بنفسي"5.
وعندما أمعن الشاه في إفساده، وأرغم رجال الدين وطلّاب العلم على تبديل ملابسهم
باللّباس العسكريّ، وأرسلهم إلى المناطق الحدوديّة، وقف الإمام بشجاعة قائلاً: "يا
جنود وليّ العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف الغيارى، يا مَنْ تساقون إلى المعسكرات،
عزّزوا التعليمات العسكريّة بكلّ شجاعةٍ، عسى أن تكونوا كموسى عليه السلام الذي
تربّى في حضن فرعون، وقوّض أساس ظلمه وجوره"6.
*لم أرَ رجلاً بهذه القوّة
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
(الرعد: 28). فكيف إذا كان القلب
عرشاً لله؟ فإنّه لن يتسرّب إليه يأسٌ أو خوفٌ أو أيّ نوعٍ من التردّد والاضطراب.
وهذا ما شاهده أعداء الإمام والثورة بكلّ وضوح؛ بعد انتفاضة (15 خرداد) والاعتداءات
الوحشيّة التي ارتكبها نظام الشاه، وموقف الإمام الشديد من هذه الأحداث التي انتهت
إلى اعتقاله وسجنه.
وفي السجن، وأثناء استجواب الإمام، يقول مسؤول التحقيق مع الإمام في وثيقةٍ رسميّة:
"لم أرَ أبداً رجلاً بهذه القوّة والقدرة، فهذا الشخص يصرِّح عَلَناً عن استعداده
للموت، ويلتزم الصمت أثناء استجوابه".
ثمّ إنّه قد تمّ استجواب الإمام مرّةً أخرى، لكنّه امتنع أيضاً عن الإجابة، معلّلاً
بأنَّه يعتقد بعدم وجود استقلال للقضاء في إيران، وأنَّ القضاة المحترمين يتعرَّضون
للضغط. لذا، "فإنّي لن أجيب عن أسئلتكم"7.
*ما قدّره الله يحظى بالشكر
في اليوم الأوّل لوصوله إلى أنقرة، أرسل الإمام رسالة إلى ابنه الأكبر السيّد
الشهيد مصطفى الخمينيّ ليطمئنّ على أحوال العائلة ويصبّرهم ويمنعهم من أيّ نوع من
التوسّل والطلب إلى النظام، جاء فيها: "نور عيني السيّد مصطفى أيّده الله تعالى، ووفّقه لمرضاته.
بحمد الله تعالى وتوفيقه وصلت بسلام إلى أنقرة التركيّة (...) أوصيكم بالصبر الجميل
وعدم الخوف، وأن لا تتشبّثوا بأحد أبداً، حيث إنَّ ما قدّره الله تعالى قد حدث".
وفي رسالة ثانية أرسلها الإمام من منفاه بعد عشرة أيام من الرسالة الأولى، جاء: "لا
تقلقوا عليّ، فالذي يقدّره الله -تعالى- لنا جميل ويحظى بالشكر... ولا أرضى أن
تتشبّثوا بأحد من أجلي، فالله -تبارك وتعالى- هو الحَكَمُ ونِعْمَ الحكم"8.
*تسليم كامل لله تعالى
لقد تعرّض الإمام قدس سره إلى ابتلاءات كثيرة قبل الوصول إلى مقام إمامة الأُمَّة،
فكانت له بمثابة منازل السلوك عند العرفاء، طواها واحدة بعد الأخرى. ومن هذه
الابتلاءات تقديم السيّد مصطفى فداءً للحقّ، فكان هذا الفداء، في أرض الغربة وأثناء
النفي، شبيهاً (بذبح إسماعيل) خليل الحقّ.
فقد قدّم أمل الإسلام في المستقبل إلى الله بتسليم كامل، معتبراً ذلك من ألطاف الله
الخفيَّة، وكأنّه سمع بقلبه من يقول له: إنّ إحياء الإسلام ونجاة عباد الله من قيود
الطواغيت يحتاج لتقديم ابنكم مصطفى فداءً له، لذلك لم تصدر ذرّة من الشكوى والألم
من قبله بعد الحادث.
يقول السيّد أحمد الخمينيّ: "عندما سمع الإمام خبر استشهاد ولده السيّد مصطفى، لم
نلاحظ على وجه الإمام أيّ أثرٍ للأذى والقلق، بل قال: "لقد وهبنا الله نعمة وقد
استرجعها الآن"".
* وما شهدت به الأعداء
ننقل أخيراً جانباً ممّا شهد به الأعداء حول شجاعة الإمام وصلابته وعدم مهادنته
للظالمين.. فقد كتب (هنري برشت) الملحق السياسيّ - العسكريّ الأميركيّ في إيران بين
عامي 1972 - 1978 ومسؤول مكتب إيران في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة بين عامي 1978 -
1980 ما يلي: "لا شكَّ في أنّه (الإمام) أحد أكبر رجال التاريخ في هذا القرن، ويندر
أن نجد مثيلاً له بين رجال التاريخ المعاصرين في إيران والعالم من حيث نفوذه
وتأثيره على أبناء شعبه والعالم وإجباره للقوى العالميّة الكبرى أن تتعامل بجدّ مع
هذه الظاهرة الجديدة"9.
ويضيف: "أعتقد أنّ المؤرِّخين سيعترفون يوماً أنّه كان رجلاً فريداً لم يُعرف جيّداً
في حياته، لأنّه لم يكن يقبل إلّا بحكم الله وقضائه ولم يساوم أبد"10.
*النفس المطمئنّة
تزخر الوصيّة الإلهيّة الخالدة للإمام قدس سره بمعاني الثقة بالله والارتباط به.
وقد بلغت ثقته بالله تعالى ورجاؤه به أن قال في بدايتها: "بقلبٍ هادىءٍ ونفسٍ
مطمئنّةٍ وروحٍ فرحةٍ وضميرٍ يأمل فضل الله، أستأذن الإخوة والأخوات وأسافر نحو
المقرّ الأبديّ، وأنا بحاجة مبرمة إلى صالح دعائكم".
فبهذه الكلمات الواثقة بالله، ودّع الإمام قدس سره أحبّاءه وأنصاره، ليلتحق بمحبوبه
الأوحد، فغاب عنهم جسداً، لكنّه حاضرٌ فكراً ومنهجاً وسلوكاً.
1- صحيفة الإمام. ج1، ص277.
2- خطاب الوليّ 2013. ص306.
3- الإمام روح الله الموسويّ الخمينيّ: مركز الإمام الخمينيّ الثقافيّ. ص15.
4- مجلّة الرصد الثقافيّ. العدد 30 – 31. ص22.
5- م.ن.
6- صحيفة الإمام. م.س. ج2، ص418.
7- سير مبارزات إمام خميني در آينه اسناد به روايت ساواك. ج2، ص212.
8- صحيفة الإمام. م.س. ج1، ص380.
9- مجلّة الرصد الثقافيّ. م.س. ص22.
10- م.ن.