"البكاء صفة عظيمة لا يعرفها إلا ذو حظٍ عظيم".
قبل أن نتطرق إلى مدى أهمية البكاء في حياة الإنسان والدور الذي يلعبه سواء من الناحية النفسية أم من الناحية السياسية إذا كان البكاء هدفاً من أجل قضية مقدسة كما هو الحال مع السيدة الزهراء عليها السلام.
فما هو البكاء؟ لماذا نبكي؟ ما الفائدة من البكاء؟
وهل أن البكاء مرفوض من الأساس في الإسلام؟ وأنه ظاهرة تدل على الضعف؟ قبل كل شيء، علينا أن نعرف بأن البكاء غريزة كبقية الغرائز التي زرعها الله في أعماق النفس البشرية ولم يخلق غريزة عبثاً. وجعل لكل غريزة مهمة ووظيفة يمكن تطبيقها عندما يكون العقل هو المتحكم وهو المسيطر على الإنسان وليس الغرائز هي التي تسوق العقل.
وموقف الإسلام من الغرائز في مناهجه التربوية يتلخص في رعايتها وتهذيبها وليس في قمعها واقتلاعها من الجذور.
والشيء اللافت للنظر أن أول غريزة تبدأ نشاطها قبل كل الغرائز هي غريزة البكاء. فمنذ لحظة الولادة تبدأ عملها على الفور.. فيستهل الطفل صارخاً باكياً.. ليعلن أن أول نشاط للإنسان، يمكن أن تمارسه الفطرة، في الدقائق الأولى من الحياة هو البكاء الذي يفجر طاقاته البكر ويشد عضده. في هذا دلالة عظيمة على أهمية البكاء في بناء الإنسان، وإن للدموع هدفاً أو رسالة في الحياة.
وقد أظهر تقرير علمي قام به مجموعة من العلماء بأن للدموع تأثيراً كبيراً على منع الإصابة بالانهيارات العصبية والنزلات القلبية وتغلغل القلق في النفس، ويظهر هذا التقرير أن المصابين بالانهيارات النفسية الكاملة هم أشخاص لا يذرفون ولا دمعة واحدة، لذلك ينصح العلماء بتقشير البصل للذين لا يبكون حتى يبكوا.. وذكر التقرير العلمي، أن الطفل يبكي في العادة 110 دقائق في اليوم، وهو أروع عمل لإعطاء الطفل صحة وعافية.
ورداً على سؤال يقول لماذا نبكي؟ يشير (الدكتور وليم فراي) إلى أن الدموع تساعد على إزالة الضغط المعنوي، إذ أنها تخلص الجسم من مواد كيماوية مضرة ومجهدة..
وبعد إجراء دراسة حول سلوك البكاء عند الناس الذين يعانون من مرض عضوي، نفسي، فالناس يقولون إنهم يشعرون بتحسن بعد البكاء. ودراستنا تظهر هذا الأمر كذلك.
وفي نهاية الدراسة يوصي الدكتور (وليام فراي) بممارسة حق البكاء حيث يقول: علينا أن نلغي التوصيات التي تقول الرجال لا يبكون.
بل أيضاً علينا أن نحذف من قاموس التعازي كلمة لا.. لا تبكِ يجب أن نواسي الناس لكن دون أن نطلب منهم التوقف عن البكاء، فهم سيتوقفون من تلقاء نفسهم عندما يشعرون بالارتياح.
وتحت عنوان الدموع لماذا؟ نشرت مجلة العربي الكويتية في عددها 284 مقالاً نقتطف منه ما يلي: الدمع أكثر الدلالات وضوحاً وكشفاً لتعابير إنسانية شتى.. وهو ميزة للطبيعة البشرية عندما يعتريها الحزن.. فهناك الغدد الدمعية في الإنسان تقوم بنشاطها على أكمل وجه. وللدموع وظائف متنوعة منها.
- الوظيفة البصرية
وهي تكاد تكون أهم الوظائف البصرية وظائف الدمع إذ يحافظ الدمع على ألق العين - القرنية، ويسد الثغر الموجودة بين خلايا السطح القرني الظهاري، فيسوي ويمهد بطلائه سطح القرنية، (من طبقات العين) لتقوم بوظيفتها خير قيام.
- الوظيفة الدفاعية
يقوم الدمع بوظيفة دفاعية وقائية بواسطة المواد التي يحتويها، والتي تستطيع إذابة وتخريب جدران الكثير من الجراثيم، فلا تعود قادرة على الغزو والتكاثر...
- وظيفة مرطبة
لأن الجفاف أذى وبلاء، فطالما بقيت العين رطبة كانت خلاياها سليمة وصحيحة.
- وظيفة طارحة للفضلات
من مواد كيماوية محترقة، وخلايا ميتة.
- وظيفة غذائية
لأن الجزء الأكبر من مادة الأوكسيجين المغذي ينتقل للعدسة القرنية من أوكسيجين الجو الذي ينحل في الدموع. وهكذا تظل الدموع تشكل خط الدفاع الأول في العين ضد غزو الجراثيم، وهي تغسل العين مما يعتريها من الشوائب، وتنهمر بشدة لتجرف كل جسم غريب، كل ذلك حفاظاً على سلامة العين.
باختصار أرقام العلم الحديث، والإحصاءات الطبية كلها تدل على أهمية البكاء بالنسبة للإنسان.. وتوازنه في الحياة، فإلغاء البكاء، يعني إلغاء الهدوء والطمأنينة من حياة الناس، في حين أن العودة إلى البكاء تعني العودة إلى الاستقرار، خصوصاً إذا كان البكاء هادفاً من أجل قضية مقدسة، كما هو الحال عند فاطمة الزهراء عليها السلام إذ كان البكاء بالنسبة لها يمثل حرباً ساخنة لا هوادة فيها ضد الظالمين.
إنه كان ثورة من أجل إعداد حضاري هدفه خلاص المستضعفين من أيدي الظلمة والمستكبرين، فبكاء فاطمة عليها السلام كان يهدف إلى عرض مظلوميتها وظلامتها هي ظلامة الإسلام، من أجل ذلك كتبت فاطمة عليها السلام كفاحها بالدموع، وخطت وثيقة الجهاد بالبكاء الحار الذي ما تركته لحظة واحدة منذ أن مات أبوها الرسول الأعظم إلى يوم وفاتها.
أما علاقة البكاء بالسياسة فلأنه يطرح المظلومية، في مقابل الظلم، والظالمين. ورب قائل يقول: بأن البكاء مرفوض في الإسلام.. وأنه ظاهرة تدل على الضعف، وليس على القوة.. فكيف نوفق بين هذا القول، وبين ما فعلته الزهراء عليها السلام.
وإذا كان البكاء وارداً وصحيحاً من الناحية الفكرية، فما علاقته بالسياسة؟ ونجيب ببساطة، إن البكاء ليس مرفوضاً، بل هو من الأشياء المستحبة والمطلوبة أيضاً في الإسلام.. ففي القرآن الكريم آيات عديدة، تمتدح البكاء وتستعذب الدموع، التي هي أرقى مراحل التطور عند الإنسان حين تكون الدمعة صفة ملازمة للأنبياء والعظماء والمؤمنين. حتى صار البكاء لدى بعض الأنبياء خبزه اليومي. فهذا النبي يعقوب عليه السلام نراه يبكي على فقد ولده يوسف في لوعة وحزن شديدين - سورة يوسف، الآيات: 48 - 86.
وأيضاً نرى بكاء النبي على الشهداء، إذ نراه يبكي كثيراً يوم وفاة عمه أبو طالب وزوجته السيدة خديجة.. وقد جعل ذلك العام عام الحزن.
وأيضاً نراه يبكي عند قبر عمه الحمزة بن عبد المطلب يوم أحد - ولم يرَ أحداً يبكي عليه، فقال في حزن وألم: أما عمي حمزة فلا بواكي عليه.
هذا غيض من فيض بالنسبة للرسول، أما بالنسبة للعترة الطاهرة فكان البكاء يأخذ طابعاً ثورياً، فها هو الإمام علي عليه السلام الذي كان سريع الدمعة يقول في دعاء كميل (اللهم أرحم من رأس ماله الرجاء وسلاحه البكاء)، فالبكاء سلاح أمضى من السيف، سلاح يخشاه الطغاة والمستكبرون.. وأهم الأعمال وأبقاها في النفس تلك التي تأتي عن طريق الألم والعذاب. إن ساعة الأنس والفرح تذهب أدراج الرياح والنسيان، ولكن ساعة الألم لا تنسَ مدى الدهر، لأنها تلقن أعظم الدروس في الحياة، لأن الألم الذي يصنع الرجال وهو الذي يصنع الأبطال.
فأعظم إكسير يقدم للشهيد بعد استشهاده هو البكاء، ذلك لأن فيه جانبين: جانب عرض المظلومية لإسقاط الظالمين، وجانب ارتياح الشهيد لهذا الثواب العظيم الذي يبعثه البكاء إلى روح الشهيد، وكثيراً ما نسمع في مجتمعنا بأنه لا يجب علينا أن نبكي على الشهيد باعتبار أنه لا يحتاج إلى البكاء والدموع بقدر ما يحتاج إلى السير وراء خطواته.. فكأنهم ما عرفوا بأن هذا الموقف يؤدي إلى انطفاء الإيمان في قلوبكم بالكامل.. وإلى الانحراف عن موازين الفكر الإسلامي لدى أهل البيت عليهم السلام.
فالدموع هي التي تصنع الرجال الذين هم في مستوى المسؤولية، فيما بطولات وجهاد المقاومة الإسلامية أبناء علي والحسين وفاطمة عليهم سلام الله ضد عدو الله والإنسانية إسرائيل التي تحاول عبر طائرتها وأسلحتها الالكترونية المتطورة أن تبيدنا وأن تزرع في نفوسنا الخوف والرعب، ليست هي إلا ثمرة من تلك الآلام والدموع التي جرت على خد الزهراء عليها السلام، التي تحولت إلى انفجار هائل في تاريخ النضال والعظمة في تاريخ البطولة والثورة في زمن الهزيمة والاستسلام.