صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

فلسفة البكاء في عاشوراء



يتساءل الكثير عن جدوى البكاء في عاشوراء بعد مرور القرون المتطاولة على حادثة كربلاء. ويستغرب أكثرهم هذا الثواب العظيم على مثل هذه المجالس. في هذا الحديث، يجيب الإمام الخميني قدس سره عن كل هذه الأسئلة بالجواب الشافي.

إن ما أود أن أعرضه على السادة الخطباء هنا هو أن قيمة العمل الذي يقومون به ومدى أهمية مجالس العزاء لم تدرك إلاّ قليلاً، ولربما لم تدرك بالمرة، فالروايات التي تقول إن كل دمعة تذرف لمصاب الحسين عليه السلام لها من الثواب كذا وكذا، وتلك الروايات التي تؤكد أن ثواب من بكى أو تباكى... لم تكن من باب أن سيد المظلومين عليه السلام بحاجة إلى مثل هذا العمل، ولا لغرض أن ينالوا هم وسائر المسلمين هذا الأجر والثواب، على الرغم من أنّه أمر محرزٌ ولا شك فيه حتماً، ولكن لِمَ جُعِلَ هذا الثواب العظيم لمجالس العزاء؟ ولماذا يجزي الله تبارك وتعالى من بكى أو تباكى بمثل هذا الثواب والجزاء العظيم؟

إن ذلك يتضح تدريجياً من ناحيته السياسية وسيُعرف أكثر فيما بعد إن شاء الله، إن هذا الثواب المخصص للبكاء ومجالس العزاء، إنما يُعطى- علاوة على الناحية العبادية والمعنوية- على الناحية السياسية، فهناك مغزى سياسي لهذه المجال.

لقد قيلت هذه الروايات في وقت كانت هذه الفرقة الناجية مبتلاة بالحكم الأموي وأكثر منه بالحكم العباسي، وكانت فئة قليلة مستضعفة تواجه قوى كبرى.
لذا وبهدف بناء هذه الأقلية وتحويلها إلى حركة متجانسة، اختطوا لها طريقاً بناءً، وتمَّ ربطها بمنابع الوحي، وبيت النبوة وأئمة الهدى عليهم السلام، فراحوا يخبرونهم بعظمة هذه المجالس واستحقاق الدموع التي تذرف فيها الثواب الجزيل مما جمع الشيعة- على الرغم من كونهم آنذاك أقلية مستضعفة- في تجمعات مذهبية ولربما لم يكن الكثير منهم يعرف حقيقة الأمر، ولكن الهدف كان بناء هيكل هذه الأقلية في مقابل الأكثرية.

وطوال التاريخ، كانت مجالس العزاء- هذه الوسائل التنظيمية- منتشرة في أرجاء البلدان الإسلامية، وفي إيران التي صارت مهداً للإسلام والتشيّع أخذت هذه المجالس تتحول إلى وسيلة لمواجهة الحكومات التي توالت على سدة الحكم ساعية لاستئصال الإسلام وقلعه من جذوره، والقضاء على العلماء، فهذه المجالس والمواكب هي التي تمكنت من الوقوف بوجهها وإخافتها.

في المرة الأولى التي اعتقلتني سلطات النظام الملكي وجيء بي من قم إلى طهران، قال لي بعض رجال أمنهم الذين اصطحبوني في السيارة: لقد جئنا لإلقاء القبض عليك والخشية تملؤنا من أن يطلع على أمرنا أولئك الموجودون في تلك الخيم والتكايا بمدينة قم فنعجز حينذاك عن أداء مهمتنا. وخوف هؤلاء ليس بشيء، لكن القوى الكبرى تخشى هذه المواكب والمآتم، القوى الكبرى تخشى هذا التنظيم الذي لا يستند إلى يد واحدة تحركه، فالشعب يجتمع في هذه المجالس طواعية، وتنعقد هذه المجالس في كل أنحاء البلاد، في بلدٍ مترامي الأطراف في أيام عاشوراء وخلال شهري محرم وصفر وفي شهر رمضان المبارك، فهذه المواكب والمآتم هي التي تجمع الناس.

وإذا كان هناك موضوع يراد منه خدمة الإسلام وإن أراد أمرؤ أن يتحدث عن قضية معينة، نرى أن ذلك يتسنى له في كل أنحاء البلد بواسطة هؤلاء الخطباء وأئمة الجمعة والجماعة فينتشر الموضوع المراد تبليغه للناس مرة واحدة في جميع أنحاء البلاد. واجتماع الناس تحت هذا اللواء الإلهي، هذا اللواء الحسيني، هو الذي يؤدي إلى تعبئة الجماهير.

ولو أن القوى الكبرى عزمت على عقد مثل هذه التجمعات الجماهيرية الكبرى في البلدان التي تحكمها، فإن ذلك يحتاج منها إلى أعمال ونشاطات وجهود كبرى تستغرق عدة أيام أو عشرات الأيام، فهي مضطرة ولأجل عقد تجمع جماهيري في مدينة من المدن يضم مثلاً ألف أو خمسين ألفاً إلى إنفاق مبالغ طائلة وبذل جهود جبارة، لجمع الناس وجعلهم يستمعون لحديث محدثهم.
ولكنكم ترون كيف أن هذه المجالس والمواكب التي ربطت الجماهير ببعضهم، هذه المآتم التي حركت الجماهير، يلتئم شملها من جميع الشرائح الاجتماعية المعزيّة بمجرد أن يحصل أمر يستدعي التجمع، وليس في مدينة واحدة بل في كل أنحاء البلاد، ودون الحاجة إلى بذل جهودٍ كبرى أو إعلام واسع النطاق.

إن الناس يجتمعون على كلمة واحدة لمجرد أنهم يعتقدون أنها خرجت من فم الحسين سيد الشهداء عليه السلام. في الرواية الواردة عن أحد الأئمة (ولعله الإمام الباقر سلام الله عليه، لا أذكر تماماً) يوصي عليه السلام أن يقام العزاء عليه ويرثى في منى بعد وفاته، ليس ذلك لأن الإمام الباقر عليه السلام بحاجة إلى ذلك، أو أن هناك منفعة شخصية ستعود عليه عليه السلام، ولكن انظروا إلى الأثر السياسي لهذا الأمر، فعندما يأتي الناس من كل أنحاء العالم لأداء مراسم الحج، ويجلس من يندب الإمام الباقر عليه السلام ويقرأ المراثي بشأنه ويوضح جرائم مخالفيه ومن سقوه كأس الشهادة فإن ذلك يخلق أمواجاً من الغضب في كل أنحاء العالم، لكن البعض يستهينون بأهمية هذه المجالس.

قد يسمينا المتغربون بـ(الشعب البكاء) ولعلّ البعض منا لا يتمكن من قبول أنّ دمعة واحدة لها كل هذا الثواب العظيم، لا يمكن إدراك عظمة الثواب المترتب على إقامة مجلس للعزاء، والجزاء المعد لقراءة الأدعية، والثواب المعد لمن يقرأ دعاء ذا سطرين مثلاً.

إن المهم في الأمر هو البعد السياسي لهذه الأدعية وهذه الشعائر، المهم هو ذلك التوجه إلى الله وتمركز أنظار الناس إلى نقطة واحدة وهدف واحد، وهذا هو الذي يعبئ الشعب باتجاه هدف وغاية إسلامية، فمجلس العزاء لا يهدف للبكاء على سيد الشهداء عليه السلام والحصول على الأجر- وطبعاً فإن هذا حاصل وموجود- الأهم من ذلك هو البعد السياسي الذي خطط له أئمتنا عليه السلام في صدر الإسلام كي يدوم حتى النهاية وهو الاجتماع تحت لواء واحد وبهدف واحد، ولا يمكن لأي شيء آخر أن يحقق ذلك بالقدر الذي يفعله عزاء سيد الشهداء عليه السلام.
كونوا على يقين من أنه لو لم تكن مواكب العزاء هذه موجودة ولو لم تكن المواكب والمراثي موجودة لما انطلقت انتفاضة 15 خرداد (5 حزيران 1963). لم يكن لأية قدرة إمكانية تفجير انتفاضة (15 خرداد) سوى دم سيد الشهداء عليه السلام كما ليس بإمكان أية قوة أن تحفظ هذا الشعب الذي هجمت عليه القوى العدوانية من كل حدبٍ وصوب وتآمرت عليه سوى مجالس العزاء هذه.

إن هذه المجالس التي تُذكر فيها مصائب سيد المظلومين عليه السلام وتظهر مظلومية ذلك المؤمن الذي ضحى بنفسه وبأولاده وأنصاره في سبيل الله، هي التي خرّجت أولئك الشبان الذين يتحرقون شوقاً للذهاب إلى الجبهات ويطلبون الشهادة ويفخرون بها، وتراهم يحزنون إذا هم لم يحصلوا عليها.
هذه المجالس هي التي خرّجت أمهات يفقدن أبناءهنّ ثم يقلن بأن لديهن غيرهم وأنهنّ مستعدات للتضحية بهم أيضاً.
إنها مجالس سيد الشهداء عليه السلام ومجالس الأدعية من دعاء كميل وغيره، هي التي تصنع مثل هذه النماذج وتبنيها، وقد وضع الإسلام أساس ذلك منذ البداية وعلى هذه الركائز، وقدّر له أن يتقدم وبشق طريقه وفق هذا المنهج.

ولو كان هؤلاء يعلمون حقيقة الأمور ويدركون أهمية هذه المجالس والمواكب وقيمة هذا البكاء على الحسين عليه السلام والأجر المعد له عند الله لما سمونا شعباً بكّاءً بل لقالوا عنا شعب الملاحم.
لو فهموا الآثار التي تركتها أدعية الإمام السجاد عليه السلام وكيف أن بإمكانها تعبئة الجماهير وتحريكهم وهو عليه السلام الفاقد لتوه كل أهل بيته في كربلاء والذي عاش في ظل حكومة مستبدة جائرة تفرض هيمنتها على كل شيء لما قالوا لنا ما جدوى هذه الأدعية. ولو أن مثقفينا أدركوا الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه المجالس والأدعية والأذكار لما قالوا: لِمَ تفعلون كل هذه الأمور وتتمسكون بها.

لو أن كل المتغربين والمثقفين وجميع ذوي القدرة والقوة اجتمعوا لما تمكنوا أن يفجروا انتفاضة كتلك التي حصلت في 15 خرداد (5 حزيران 1963) وإن من يمتلك هذه القدرة على صنع حدث كهذا هو من اجتمع الجميع تحت لوائه.

إننا نصرخ بأننا نريد الجمهورية الإسلامية ونريد الإسلام، لأننا رأينا أن الشعب بأسره التفّ حول الجمهورية الإسلامية وحول اسم (الإسلامية) بالذات وفي سبيل الله، ولأننا رأينا أن الجماهير إنّما قامت في سبيل الله لأجل ذلك، ولأننا رأينا ما تتمتع به هذه الجمهورية الإسلامية من دعم من شعبنا ومن سائر الشعوب.

ليعلم شعبنا قيمة وأهمية هذه المجالس التي أبقت الشعوب حية، في أيام عاشوراء بنسبة أكبر وفي سائر الأيام بدرجة أقل وبهذا الشكل الذي نراه، ولو كان المبهورون بالغرب يعرفون البعد السياسي لها، ولو كانوا يدّعون- حقاً- السعي لتحقيق مصالح الشعب والبلد لرغبوا هم فيها أيضاً ولبادروا إلى إقامتها.

إنني آمل أن تقام هذه المجالس بشكل أفضل وعلى نطاق أوسع. وإن للجميع بدءاً من الخطباء وانتهاءً بقراء المراثي والقصائد دوراً وتأثيراً في ذلك، فإن ذلك الذي يقف أسفل المنبر ويقرأ بعض الرثاء، وذلك الذي يرتقي المنبر خطيباً، كلاهما له تأثيره ودوره الطبيعي وإن كان البعض لا يُدرك قيمة عمله، من حيث لا يشعر.

لقد بلغنا مرحلةً أقدمَ فيها شعبنا على صنع ثورة، تفجرت فيه قوى معينة بطريقة قلَّ نظيرها في أي مكان، فقد كان هذا الشعب يعاني من التبعية في كل شؤونه، وكان النظام السابق قد عمل على سلبه كل شيء وتقديمه للأجانب حتى أفقد البلد شرفه الإنساني، ثم فجأة حصل الانفجار الشعبي الذي تمَّ ببركة هذه المجالس التي عمّت البلد من أقصاه إلى أدناه، تجمع الناس وتوجّهت أنظارهم إلى هدف واحد.

إن على السادة الخطباء وأئمة الجمعة والجماعة أن يوضحوا هذه الأمور للناس أكثر من وضوحها لي، لا يظنوا أننا مجرد "شعب بكّاء" فإننا شعب تمكن بواسطة هذا البكاء والعزاء من الإطاحة بنظام عمّر ألفين وخمسمئة عام.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع