حسين مدلج
.. بدت الطبيعة متجهّمة منكمشة على نفسها، فلا رائحة للورد، ولا تغريد للحساسين والنهر لم يعد له تلك الموسيقى، ولا الريح عادت تداعبُ وريقات الأشجار فترقصها والشمس غابت خلف غيوم دكناء، وغاب معها القمر، وبدا النهار ليلاً والليل أشدّ حلكة وسواداً..
كل ذلك حدث فجأة، في ليلة غيّرت مجرى حياتها، غيّرت كلماتِها التي اعتادت أن تُسمعها لأبنائها والجيران.. يوم قُرِع الباب في ليلة لم يكن يُسمع فيها غير أصوات البارود والنار، ودويّ القنابل المتكسّرة المتحطِّمة على تلك الصخور الصلبة، لم يكن يُسمع فيها غير أنين الآلات المرغمة قسراً أن تتجه نحو الإمام مفرغة ما في بظونها من حِمم.
عندما فتحت الباب وجدت جثّة زوجها محمولة على الأيدي مضرّجة بالدماء، وقد لحقت روحه بالرفيق الأعلى بأرواح من سبقوه على درب الشهادة، درب الخلود..
لقد استشهد في الدفاع عن تلك القرى البعيدة عن منزله، التي حاول الأعداء احتلالها. فكان مع إخوته المجاهدين أبطالاً ميامين بكل ما يملكون من دمٍ ومن سلاح، ومن أطفال ونساء وشيوخ، مانعين تهديم البيوت فوق رؤوس الأطفال والنّساء، لأنهم إن لم يكونوا كذلك فسيزداد العدو الجبان غروراً وعتوّاً وسيستمر في وحشيته اللامتناهية. فالعدو لا يميّز بين كبير وصغير، بين رجل وامرأة، كلهم في نظره سواء، يجب قتلهم حتى لا يبقى من يقاوم ويدافع عن الأرض، حتى لا يبقى من يحمل في قلبه جذوة إيمان أو في عقله وميض فكرة.
عند رؤيتها لزوجها أُصيب بصاعقة، أرادت أن تتكلّم فم يُطعْها لسانُها، تسمّرت في مكانها، وثبّتت عينيها في جثمان زوجها المحمول على الأكفّ، ومضت لحظات بطيئة ثقيلة، كانت كل لحظة عمراً بحاله، تاريخاً كاملاً. تشابكت الأفكار في رأسها وتداخلت وراحت تتصارع في ملحمة لا يُعرف فيها من المنتصر، وساد صمت ثقي انفجرت على أثره بالبكاء ثم صرخت بعنف: لماذا قتلتموه؟ لماذا؟.. منذ أن عرفته لا يحبّ القتال. أنتم من أخذه بالقوة لكي يدافع عن قراكم. أنتم من أقنعتموه بأفكاركم: حبّ الأرض المقاومة الشهادة...
كانوا بعيدين عنّا. هم لا يوجّهون بنادقهم إلا لمن يقاتلهم. لو مكثتم في بيوتكم لما حصل ما حصل. أنتم تعرفون أنه لا قِبَل لكم بقتالهم، هم أكثر عدداً وعُدة. يملكون كل وسائل الحرب الحديثة وأنتم لا تملكون شيئاً إلا من سلاح فردي بسيط، وهل تستطيع البندقية أن تصمد أمام المِدْفع أو الدبابة أو الطائرة؟!..
قولوا لي: من سيعيل هذه الأسرة التي غدت من الآن مشرّدة، الكبير من الأولاد لم يناهز الخامسة عشرة؟ أيّ عمل هذا الذي عملتموه؟
فوجئ الجميع بكلامها. لم يكونوا يتوقعون هذا منها أبداً كانوا يظنون أنها وراء اندفاع زوجها وذهابه لملاقاة أعداء الله والإنسانية، كانوا يتوقعون أن تلاقيهم بصيحات الزغردة بل أن تكون قدوة لكل النساء اللواتي قد يفقدن أزواجهن أو أبناءهن...
وشيع أهل القرية مودعين رجلاً عرفوه بالأخلاق والأمانة والإيمان، عرفوه بصفاته الخيرة وهم يهتفون بصيحات التكبير والثأر من الأعداء...
ومضت الأيام، وفي كل يوم كانت تزداد هموماً إلى همومها، وتحمّل أصدقاء زوجها المسؤولية وتطلب من ولدّيْها الكبيرين ألا يفكرا بما فكّر به معظم أهل القرية وأبناؤها وأن يهتمّا بالحقل. وهم إن لم يفعلوا ذلك فسيموتون جوعاً وفقراً. وصار الكبير مقنعاً بما تقوله أمّه إلا أن الأصغر كان في صراع معها حول ما تفكّر به. وقال لها ذات يوم ما: كأنك لست بأمي أو كأني لستُ ابنَك. لم يكن أبي إلا واحداً من الأبطال الذي دافعوا وفازوا بالشهادة، بجنة الخلود التي وعد بها الله. لماذا تفكّرين بالجوع والفقر ولا تفكرين بالأعداء؟ الأعداء هم سبب الموت والجوع والحرمان. إننا إن لم نقف في وجههم أولاً لا نستطيع أن نحرث الأرض أو نغرس الشجر. ثم متى كان الفقر عاراً. إنه الامتحان الإلهي يصقل الله به نفوس عباده فيميّز بين الصابر، والجازع، والطامع والقانع ألم تسمعي كلام الله إذ يقول في محكم كتابه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين﴾ (البقرة/155).
إن النكبات بافتقاد الأعزاء يجب أن تزيد المؤمن العاقل المتفهمّ لحقيقة الحياة إيماناً، وتفتح أمامه أبواب الغاية القصوى في الحياة الثانية، الحياة الحقيقية الباقية فما دام الإنسان قد بدأ لينتهي، وما دامت الحياة تعطي وتأخذ وما دام الأعزّة هم السابقون، والمنكوبون هم اللاحقون، فإنّ من واجب المؤمن العاقل أن يصمد وأن يعرف إن هذا الأمر لا به ابتدأ، ولا عليه انتهى..
لكنها بقيت على موقفها...
كانوا مقتنعين أنها ليست هي اليوم كما كانت بالأمس يبدو أنها الصدمة الأولى ولكنهم كانوا واثقين من أنها مرحلة الضباب التي يعقبها الصحو. في كل مرة كانت تقول: أنهم لا يقتلون إلا من يقاتلهم أو يشهر سلاحه في وجههم، لا أريد أن يموت أولادي. يكفي أني فقدت أباهم..
ومرت الأيام بسرعة، وذات مساء لم يعد ابنها من عمله في الحقل كما اعتاد أن يأتي...
وحلّ الليل بظلامه وترك على الكون وجوماً مخيفاً. حاولت الأم أن تخفي في نفسها شيئاً خشيت منه. حاولت أن تطفئ بين ضلوعها ناراً بدأت تشتعل لكنها لم تستطع، ومرت الدقائق والساعات ثقيلة بطيئة تحمل في كل ثانية منها أفكاراً أو صراعاتٍ وحاولت أن تقنع نفسها أنه ربما تأخّر عند بعض أصدقائه، لكن تأخره الطويل دفعها لأن تذهب مع أخيه إلى الحقل برفقة بعض الجيران باحثين عنه. وهناك في الحقل تحت شجرة أسقطت كل أوراقها فبدت كأمّ فقدت كل أطفالها، لكنها بقيت صامدة تقاوم الريح العاتية، وجدوه فاتحاً ذراعيه يحتضن الأرض وبدت الأرض كأم تضمّه إلى صدرها الحنون.
لقد قتلوه غدراً. كل من كان معها ظن أنها ستفقد صوابها. لكنْ ثمّة مفاجأة.. اقتربت منه وقبّلتْهُ ثم حملتْه بين يديها وانهمرت دموع الفرح وأطلقت زغردات النصر ووسط هذا الليل البهيم انطلقت كلماتها تُسمِع الجبال والوديان، الأشجار والأنهار، ويتردّد صداها في الآفاق: لن أكون إلا كزينب عليها السلام يوم وقفت على جثمان أخيها الحسين عليه السلام وهي تقول: اللّهمّ تقبّل منا هذا القربان.
ينبغي أن يكون إيماننا بالله قوياً، أن لا نتداعى أمام الأهوال والمصاعب والمصائب.
يجب أن نصقل نفوسنا ونتسامى بعزائمنا من خلال صعاب الطريق وأشواكه.
الإيمان هو الذي يهب النفس الاطمئنان على زلازل الحياة وكوارثها، وإذا لم نكن كذلك فما هو إلا دعوى باللسان فقط.
وقبل أن يُشيّع ابنها إلى مثواه الأخير، شاهدها الجميع هي تخرج من صندوق خشبي بندقية زوجها وتسلّمها لابنها الأصغر...