تحقيق: غدير مطر
رحل عالماً بما كان ينتظره، تاركاً وراءه حلماً تحقّق... هو حلم الشهيد ذي الفقار عزّ الدين (أبو حسن) ابن الثمانيةَ عشَر ربيعاً. همّ بالحديث لأمّه عن رؤياه قبل أسبوع من استشهاده، لكن خوف الأمومة منعها من الاستماع، فرحل ليعود شهيداً كما أخبره الإمام الحسين عليه السلام في المنام. عاد ذبيحاً، لم يتوانَ لحظة عن تلبية نداء أبي عبدالله عليه السلام..
*أمانة.. ووصيّة
وكان ذو الفقار قد روى رؤياه لصديقه الذي عاد يحمِلُه أمانة لأمّ الشهيد، ووصيَّة. أمّا الأمانة، فرؤياه في المنام لتفاصيل شهادته. شاهد أسْره وذبْحه حيّاً دون أن يتراجع أو يتملّكه ذعر. كيف يخاف وقد رأى الإمام الحسين عليه السلام مهدّئاً من روعه، مطمئناً لفؤاده أنّه لن يشعر بذرّة ألم. وأما الوصية، فكانت أن تزفّه أمّه عريساً كالقاسم عليه السلام.. لم يتوانَ ذو الفقار عن نصرة الإمام، ليختم جهاده في محرم كما بدأه فيه بشهادةٍ لا مثيل لها، شهادةٌ مُهرت ببصماتٍ حسينيّة، فصولها كربلائية..
وكيف لشبابٍ عشقوا آل بيت المصطفى عليهم السلام أن يتوانوا للحظة عن نصرة سيّد الشهداء عليه السلام؟ كيف وهم نذروا أنفسهم للدّفاع عن الإسلام، والأخذ بثأر الأئمة الأطهار؟ كيف لعاشوراء الحسين أن تنتهي، وأرواح شهداء كربلاء حيّة في شباب اليوم؟ كربلاء الحسين، هذه المسيرة التي لم ولن تتوقف حتى ظهور الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف...
* بين الأمس واليوم
عاشوراء الحكاية، هي تلك الثورة الحسينيّة المباركة التي سطّرت آلاف العبر، عن بطولات لم يمُت ذكرها في أي زمان. وعاشوراء اليوم هي امتداد للأمس، "أبطالها شباب مستعدون للموت في سبيل الله، دفاعاً عن الإسلام وأهل البيت عليهم السلام، دون خوف أو رادع". هذا تعريفهم بلغة عاشقيهم، ومنهم من يستفيض في الكلام عنهم ترافق حديثه دموع الفخر، كالحاجة سناء التي سألت نفسها بعد استشهاد ابنها عن سرّهم: "هم أنصار أبي عبد الله الحسين عليه السلام بحق، في كربلاء اليوم. وهم عشّاقه وكفلاء حرمه، فكيف لا يكون النصر حليفهم"؟ والحاج أحمد (والد أحد الشهداء) الذي يرى في كربلاء اليوم "تلبية لنداء سيد الشهداء يوم العاشر من محرم وحيداً، بدون ناصر".
ليس غريباً أن تُكمل كربلاء رحلتها، وحب الحسين عليه السلام أجنّ قلوب عشّاقه كجنون عابس يوم العاشر من محرّم. ليس غريباً أن تتكرّر واقعة الطف وحرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تُسبى مرة أخرى، فبالنسبة لزينب (أخت شهيد): "نحن نعيش في زمن حفيد الإمام الحسين عليه السلام، في زمن يكثر فيه أعداء الإسلام، كزمن أبي عبد الله، وعلينا بَذْلُ مُهجنا في سبيل نصرة الدين"، وتشاركها الرأي فاطمة (ابنة أحد شهداء الدفاع المقدس) مضيفة: "في عاشوراء فُصلت الرؤوس عن الأجساد الطاهرة، وسُبيت حُرم طه، وعانى الأطفال عطَشاً وقتْلاً، وهذا ما نعيشه اليوم أمام هجمة التكفيريّين".
*أنصار كربلاء اليوم
تكاد قصصهم تتشابه، هم مَنْ لم يرضوا بسبيِ الحوراء زينب عليه السلام مرتين، كالشهيد يوسف حلاوي الذي اختار البقاء قرب ضريح العقيلة والدفاع عنه، على العودة إلى لبنان رغم الاشتياق، "الشهيد يوسف عاش انقلاباً في كل شيء، تصرفاته، ضحكاته، حديثه، أبى العودة إلى المنزل، وجدّد فترة عمله ثلاث مرات" تقول شقيقة الشهيد بتول مضيفةً: "في إحدى المرات أوقفته أمي عند الباب، وعبّرت له عن حبها لقتال أبنائها بين يدي صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فتبسم قائلاً: الذي يقرأ دعاء العهد أربعين صباحاً، هل من المعقول أن لا يرجع ليقوم ويقاتل مع الإمام؟ فبكت أمي عندما رأت يقين الشهادة في عينَي يوسف".
*ادعوا لي بالشهادة
أما الشهيد القائد محمد مظلوم (جواد علي) فكانت أهمّ وصاياه لمن قصد العراق زائراً "ادعوا لي بالشهادة"، الشهادة التي كان يعتبرها "الأمنية" كما تقول زوجته إيمان، وتروي الكثير من القصص عن شهيدها الذي تبيّن عشقه للشهادة في سبيل الإسلام، "في تشييع صديق الشهيد عباس سلهب، تمتم محمد في أذن رفيقه قائلاً: الله لا يحرمها لحدا، الشهادة فخر". تروي زوجته وفي عينيها تتلألأ دموع الفخر، وتُكمل: "كيف لأمنية محمد أن لا تتحقق، ولم يخلُ حديثه يوماً من ذكر الشهادة؟ لقد كان مواظباً على زيارة عاشوراء ودعاء العهد كل صباح. كان ينعى نفسه شهيداً كل يوم، حتى أنه كان يسمي ابننا جواد (شهيد ابن شهيد)"، وتُضيف: "استشهد محمد صائماً عطشانَ مواسياً عطاشى كربلاء". وللتأكيد على مدى تأثر الشهيد جواد علي بالإمام الحسين عليه السلام وعشقه للشهادة، بعد استشهاده وُجدت هذه الكلمات مخطوطة على ورقة في جيبه: "يا ساحة العشق انطقي، أنا عاشق كربلاء، شهيدٌ متى أرتقي"..
*مجنون الحسين عليه السلام
وتطول القصص، قصص الذين منهم مَن قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ومنهم الشهيد علي أبو طعام "مجنون حسين" كما تسميه شقيقته فاطمة، وكيف لا وهي التي كانت ترى في عينيه ذلك العشق؟ تروي عنه: "حضر الشهيد علي يوماً تشييع أحد الشهداء الإيرانيين، فخط على الكفن أمنيته: "شهيد مدافعان"؛ أي شهيد الدفاع عن المقدسات، علي أبو طعام، وقد نال ما تمنى"، وتُضيف: "رُزق أخي زيارة الإمام الحسين عليه السلام، لكنه لم يدخل المقام كأيّ زائر، دخل المقام ساجداً باكياً حتى أغشي عليه، وعندما استعاد وعيه، روى له رفاقه ما حلّ به".
لم يكن حديث الشهيد علي يفتقد يوماً لنكهة الشهادة، كغيره من الشهداء، فعشقهم للشهادة تملّك كل جوارحهم حتى اللّسان، لقد كان الشهيد موهوباً بالكتابة وفن التصوير، وقد استخدم ذلك للتعبير عن عشقه لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وفي إحدى خواطره المخطوطة يقول: "ألا تريد أن تأخذ بالثأر، وتشفي قلب جدتنا الزهراء؟ مولاي ضاق صدري وأنا لغربتك غريب...".
هم نخبة من ثلّة حسينيّة طاهرة، باعوا جماجمهم لله جلّ وعلا. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها. هم من يُكملون طريق كربلاء، ويمهّدون الطريق لظهور الإمام صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، يقاتلون باستبسال، ويستشهدون في سبيل الله. هم ثلّة مصطفاة تتجدّد معهم ثورة كربلاء، وبهم المسيرة لن تتوقف..
*خير نهاية
وفي كلام للسيد حيدر عثمان، مع مجلة بقية الله، يرى أن شباب كربلاء اليوم "خاصة الخواص، فالله يختارهم من خاصّة أوليائه، ومن وصاياهم نلتمس عشق الحسين، وهو نفسه عشق أصحابه له في عاشوراء، وكذا تتجلى العلاقة والارتباط بالولاية". ويُضيف السيد حيدر مؤكّداً على "الطاعة المطلقة التي تسكن قلوب هؤلاء الشباب المستعدّين كلّ آن لتلبية أمر نائب الإمام المعصوم عجل الله تعالى فرجه الشريف السيد علي الخامنئي حتى الشهادة".
*عشقٌ للإمام وعشقٌ للشهادة
ويرى عثمان في عاشوراء "صوراً رائعة ومواقف عظيمة نعيشها اليوم بكل تفاصيلها". يستعرض بعضها بعد الإضاءة على "الارتباط الوثيق بثورة الإمام المظلوم، المتجدّدة عبر العصور، والتي لا تنتهي إلّا بظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف"، ففي عاشوراء مواقف عظيمة لشخصيّات عظيمة جداً ومن مختلف الأعمار، نساء ورجال، كبار في السن أو كهول أو حتى أطفال، كانوا يتسابقون إلى قتال أعداء الإمام فرحين مسرورين لاستشهادهم بين يديه. فهذه زوجة "جنادة بن كعب الأنصاري" التي لم ترضَ بأن تُثكل السيدة الزهراء عليها السلام بولدها وحدها، فقدمت زوجها وولدها ابن الإحدى عشرة سنة بين يدي سيد الشهداء مخاطبة إياه: سيدي أتُثكل أمك الزهراء بولدها وأنا يبقى لي ولد؟ كذلك يستعرض عثمان موقف غلام حبيب بن مظاهر الذي خاطب فرس حبيب قائلاً: "والله لئن لم يأتِ إليك صاحبك لامتطيتك أنا ونصرت الحسين"، كل ذلك فداءً للحسين وفي سبيل الله والإسلام..
*صدى النداء وصل إلينا
يذكر السيد حيدر عثمان خطاب الإمام الحسين عليه السلام عندما همّ بالرحيل إلى كربلاء: "مَن كان باذلاً فينا مهجته، وموطناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا" ويشرحه بقوله: "وهو نداء أطلقه عليه السلام لعشاق الشهادة: أن هلمّوا معي، فوصل صدى النداء إلى زماننا، وتكتمل المسيرة مع شباب الدفاع عن المقدّسات، المستمدين عشقهم لآل البيت من عاشوراء". "في هذا الزمان آلاف الكفلاء لزينب كالعباس، وآلاف العشاق للحسين كحبيب بن مظاهر، والآلاف كعابس بن أبي شبيب الشاكري الذي أجنّه حب الحسين عليه السلام. النماذج نفسها التي شاهدناها في كربلاء نجدها في أيامنا، شباب يقاتلون عن عقيدة راسخة وإيمان كبير" يختم عثمان.
في كربلاء الحسين عليه السلام نصر رُصّع بدماء طاهرة زكية، وفي كربلاء الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف نصر مستمد من عشق حسيني يمتلك أفئدة شباب حيدرة..