حاوره: منهال الأمين
كانت المسيرة الحسينية على مرّ التاريخ محطّ اهتمام المؤرّخين والمفكّرين، فضلاً عن أنّها ملهمة الثوار طالبي الحريّة الحقيقيّة، غير المرتهنة ولا المرتبطة بمنافع ضيّقة وخاصّة. في جولة مع أحد أبرز خطباء المنابر الحسينية، سماحة الشيخ إبراهيم بلوط، طِفنا في تلك البقاع انطلاقاً من المدينة المنوّرة في الحجاز، وصولاً إلى كربلاء في العراق، على مقربة من الكوفة، التي وردت كتب شيوخها ووجوهها بالآلاف، تستصرخ ابن بنت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتعلن أنه إذ يقدم إنّما يقدم على جُند له مجنَّدة.
*محطات ومواقف
تبدأ الجغرافيا ولا تنتهي في كربلاء، ذلك أن المسير الحسيني لم يحطّ رحله بعد المجزرة الرهيبة والمواجهة التاريخية، بل كانت مسيرة السبي والعود إلى كربلاء ثم إلى المدينة من جديد. تقود الركب عقيلة الطالبيّين، زينب الحوراء، إلى ما لا نهاية، إلى ما لا حتف ولا انقضاء. تلك الثورة تُختصر بمقولة تتردد: "لا مقام لكم بها". ولكلٍّ مقامه الذي يرجوه.
بدأ معنا سماحة الشيخ إبراهيم بلوط من المدينة حيث كان الجوّ السياسي يضغط باتجاه نزوح الإمام الحسين عليه السلام، إلّا أنه لم يكن الإمام عليه السلام ليخرج هكذا من دون أن يُودّع أهلها، مواقف تنبئ عن طبيعة تحرّكه وخلفيته... لخّص الشيخ الموقف.
وفي المدينة، دارُ الإمارة الأموية، كان الحدث، حيث والي معاوية، الوليد بن عتبة، قد وصله كتاب يزيد، يخبره فيه بهلاك معاوية، ويطلب أخذ البيعة من شخصيّات عدة في الحجاز، على رأسها والأهمّ بينها: الإمام الحسين بن علي عليه السلام.
*وسواس في دار الإمارة
في أُذن الوليد جلس خبيث يوسوس. مروان بن الحكم. وسواس لا يغادر قصر الإمارة، ولا تعدوه مؤامرة تحاك هنا أو هناك. يلحّ على الوالي بأن يأخذ البيعة من الإمام وإن لم يستجب فليضرب عنقه. كان ردّ الإمام عليه السلام حازماً خلّد في التاريخ، معلناً بأن مثله، وهو ابن بنت رسول الله، ابن القيم والمبادئ والرسالة الحنيفة، لا يمكن أن يبايع من هو مثل يزيد، الفاسق الفاجر شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة، وفوق هذا كله مدّعي مُلكٍ ورثه عن مَلك، والده معاوية بن أبي سفيان، فلم يسمعه، ربما في احتضاره، يردد حين رأى عاقبة أمره: ليتني لم أُعنَ بالمُلك.
*خروج الإمام عليه السلام من المدينة... موقف
"عزم الإمام على ترك المدينة" -يُكمل الشيخ إبراهيم بلوط- إذ إنه رأى أن المفترض به، بعد موقف رفض البيعة للملك العضود، أن يخرج منها، حتى لا تتأطّر حركته بها، وإن جرى عليه بغيٌ أو غدر. ولذا، كان المقصد مكة المكرمة. ولكن قبل رحيله من المدينة، أيضاً، كانت له محطات سجّلها الرواة، منها ما كان بمبادرة منه، إذ قصد ضريح جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فودّعه وحدّثه بما جال في نفسه.
ومن هذه المواقف ما كان بدافع الحب والحرص، مثل ما فعل أخوه محمد ابن الحنفية، الذي حاول ثنيه عن الخروج، أو إذا أراد ذلك فليكن إلى اليمن، حيث لأبيهما موالون ومحبّون.
كذلك استوقفه خبثاً ولؤماً مروان بن الحكم، ناصحاً الإمام بالنزول على حكم يزيد.
هكذا يكون خروج الإمام من المدينة، إحباطاً لنتيجة كانت قد تترتب على بقائه فيها رافضاً البيعة، منتظراً ردة فعل القوم الطامعين بالحُكم والملك العضود.
*في مكة... وصول الكتب
في مكة استُقبل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، استقبالًا حافلًا، يتابع الشيخ بلوط عن مسير الإمام عليه السلام، وكان يوم الثالث من شعبان سنة 60 للهجرة، حيث نزل بيت عمه العباس بن عبد المطلب، وهناك اجتمع لديه عدد من أقطاب الأمصار في تلك الأيام، وكان له كلام مشهود ومشهور عن فضائل أهل بيت النبوة ومكانتهم وأهليّتهم للحكم بما أنزل الله تعالى. هنا أيضاً ثارت حفيظة بني أمية، يعلّق الشيخ: وبدأت كتب أهل الكوفة ورسائلهم تصل إلى الإمام، وقد عدّها الرواة بالآلاف، كُتبت ومهرت بتواقيع المئات من وجوه الكوفة، وشيوخ عشائرها وقبائلها، تطلب إليه القدوم "فقد أينعت الثمار واخضرّ الجناب".
*موقف الإمام عليه السلام
والإمام الحسين عليه السلام، يوضح الشيخ بلوط، لا يمكن أن يقف في مقابل من يستصرخه موقف المحايد، هو حتماً سيبادر إلى التلبية، ولو كلّفه ذلك ما كلّفه. ولذا، بعث من مكة بابن عمه مسلم بن عقيل (رض)، سفيراً إلى أهل الكوفة، بل أميراً وقائداً، أوكل إليه تنظيم الجهود وجمع الكلمة.
في المقابل، كان الإمام الحسين عليه السلام قد بادر إلى إرسال الكتب باتجاه البصرة، لعلّه يجد فيها صدى لحركة متكاملة، تناصر هذه تلك، وكذلك أوفد إليهم سفيره، سليمان بن رزين (رض)، ولكن دون جدوى، حيث انتهى به الأمر شهيداً على يد والي البصرة آنذاك، عبيد الله بن زياد (قبل انتقاله إلى الكوفة).
*خروج الإمام من مكة... رسالة
وعن سبب خروج الإمام من مكة، أيضاً، وأهميّته قال الشيخ بلوط: فيما كان الإمام عليه السلام يؤدي مناسك الحج، في الثامن من ذي الحجة، وصلته الأخبار بأن يزيد أمر عتاته بأن يقتلوه ولو كان معلقاً بأستار الكعبة. لم يكن خروج الإمام من مكة هذه المرة في السر، وأيضاً الناس كانت تصعد إلى عرفة والإمام ينزل، قاطعاً حجه، لعلّ في ذلك رسالة إلى الناس بأن الأمور تتجه نحو الأسوأ، وأن الأمويّين عازمون على هتك الحرمات وإسالة الدماء الحرام في المشعر الحرام.
أردف الشيخ إبراهيم قائلاً: إذاً نلاحظ أن الإمام عليه السلام لم يتخفَّ ولم يخرج بخوف وترقب، إنما كان يسلك الطريق المعروفة والدروب المعتمدة لدى القوافل والمسافرين، إلا أنّ ما كان يميّز سفره أنه كان يسري بقومه، أي يسير ليلاً، وهذا لعل مرده إلى غيرته وحرصه (سلام الله عليه) على أهله وحرمه.
*إلى كربلاء...
ولكن ما الذي دفعه إلى السير بكل الظعن، نساءً وأطفالاً وإخوةً وأبناءً وأصحاباً؟
يرجح سماحة الشيخ إبراهيم بلوط أن السبب الذي يجمع عليه المشتغلون في السيرة الحسينية، يعود إلى فلسفة التخلّص من كل العلائق التي تعيق تحرّك الإمام، الذي يتميّز بالتصدّي والتحدّي، رحلة فيها من الخطر ما فيها، هو يتحدّى الحاكم الطاغي الذي استولى على الحكم ويريد الإطاحة بكلّ من يعارضه أو يشكّل تهديداً له. ولذا، فإن الإمام بذلك ربط على قلبه هذا الرباط، فلا شيء يمنعه أو يشدّه إلى المدينة. إنه مقدم على تضحية جليلة، تتطلب سنّ سنّة البذل والعطاء بكل ما يملك، ويحب ويتعلق به.
*مشاهِد...
كانت الوجهة إذاً من مكة إلى الكوفة. في الطريق كان لموكب الإمام الحسين عليه السلام محطات كثيرة للراحة، ومن ثم متابعة المسير. من تلك المشاهد:
التنعيم، ووادي العقيق، وذات عرق، والصفاح، والغمرة، والمعدن، والعمق، والسليلية، والنقرة، والحاجز، وأجفر، والخُزيمية، وأقساس، وبستان بن معمر (أو بستان بني عامر)... والعقبة وشروف، وذو حسم، وعذيب الهجانات وصولاً إلى قصر مقاتل، حيث رأى الإمام رؤياه الشهيرة والتي استيقظ منها وهو يسترجع ويحوقل، فسأله ولده علي الأكبر عليه السلام عن السبب، فروى له الإمام أنّه سمع منادياً يقول: إنّ القوم يسيرون والمنايا تسير معهم. فنظر علي إلى أبيه وقال: أولسنا على الحق؟ إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.
*الثورة خيار لا مسار
يكمل الركب مسيره بهذه الثقة والطمأنينة بخيارات القائد، التي لا تنطق عن هوى، بل تنظر بعين الله وتهتدي بهديه.
ويشير الخطيب الشيخ إبراهيم بلوط إلى أنّ عدد الركب الحسيني بدأ بالتقلص وصار الركب في تناقص مستمر حين خاطبهم الإمام الحسين عليه السلام بأنهم ماضون إلى الموت، وإلى مصيرٍ محتوم. في المقابل التحق به عدد من الخلّص والذين سعوا إلى نصرته حينما علموا بخروجه، أمثال زهير بن القين الذي كان نصيراً لوالده، أمير المؤمنين، من قبل.
وعند الاقتراب من العراق، وتحديداً من الكوفة، وصل خبر استشهاد مسلم بن عقيل إلى الإمام عليه السلام، وتبدّلت الأحوال هناك. ومن الروايات التي تذكر لوصف الحال ها هنا أن الإمام عليه السلام التقى في طريقه بالشاعر الفرزدق مقبلاً من العراق، فسأله عن حال البلد وأهله، وكيف تركهم وراءه، فأجابه الجواب الشهير: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".
*الإمام يتابع المسير... ولكن!
لم يعد هناك من مستحقين للثورة، ولكن هذا لم يعفِ قائدها من المضيّ بها قدماً، ذلك أنّ الطغاة تمادوا وفتنوا الناس في دينهم، وها هم أصحاب الكتب المستصرخة للحسين عليه السلام يخرجون عليه مقاتلين، وكما يعبر الرواة فإنهم "ركبوا البقرة لقتاله". وقد أشاع الإعلام الأموي في أرجاء الأمة الإسلامية آنذاك، أن الدولة يتهددها تمرّد الخوارج، ولذا فعلى الأمة أن تتعبّأ.
كلّ هذا لم يثنِ الإمام عن التقدم نحو الكوفة، ولكن السلطة تنبّهت إلى خطورة ذلك، وأنّ دخوله إليها سوف يحدث انقلاباً في الموازين، فأمرت بعض فرقها (والتي كانت بقيادة الحر بن يزيد الرياحي(1) (رض)) بأن تجعجع بالإمام وصحبه، أي أن تضيّق عليه المسير وتجبره على التوجّه بعيداً عن قلب الحدث. وهكذا كان، فكان الطرماح في طريق الإمام دليلاً إلى تلك الأرض التي فيها مناه ومنيّته. فيقال إنه سأل:
- ما اسم هذه الأرض؟
- نينوى وأرض الطف.
- وهل لها اسم آخر؟
- يقال لها الغاضرية.
- وبعد؟
- تُسمى أيضاً كربلاء.
فيستعيذ الإمام من الكرب والبلاء، ويلتفت إلى أهله وصحبه قائلاً: ها هنا محط رحالنا، ومسفك دمائنا، وها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) أول شهيد بين يدي الحسين عليه السلام حين بدأت معركة يوم العاشر من محرم العام 61 للهجرة.