ديما جمعة فواز
جلس قرب أمه بينما كانت تتصفح ألبوماً للصور القديمة، وسرعان ما بدأت تحدثه: "آه يا محمد.. ذاك عمّك على النهر، وهذه الصورة لخالتك حين كنا نقضي معاً فصل الصيف في الجنوب، أمّا تلك فهي لوالدك رحمه الله.. أرأيت كم كان صلبَ البنية وكم أنك تشبهه؟ انظر هنا.. هذه المرحومة جدتك كانت تطعم أختك سارة.. يا الله.. هل تذكر يا محمد بيت عمّتك في البقاع؟ انظر كنت تلهو في الحديقة الواسعة، كان عمرك أربع سنوات.. وهذه صورة جارنا "أبو علي".. رحمة الله عليه كم كان طيباً.. وهنا حين كنا نشوي اللحمة على شرفة منزلنا القديم، كان عمرك حينها ثمانية أعوام..". كان محمد يبتسم حيناً ويقطّب جبينه حيناً آخر وقد شبك يديه إحداهما بالأخرى دون أن يحاول قطع ماضي والدته الجميل وانسيابية ذكرياتها.
"انتظر أريد أن أريك صورة ستحبّها كثيراً.. ها هي.." وبأنامل مرتجفة أعطته صورة للعائلة عند شاطئ البحر حين كان عمره 12 عاماً، تقف قربه أمه وهي تحمل أخته سارة بينما يضحك والده وهو يضم المرحوم جدّه.. لم يلتفت للمشهد العام بحد ذاته ولكن هاله النظرة التي رمقته بها أمه.. نظرة التحسر على أيامٍ خلت، كانت تضج بالحياة والأمل. اقترب منها وقبّل جبينها. قال لها بشفقة: "جميلة بالفعل هذه الصورة، وأنت أجمل من فيها". ابتسمت له وقامت متثاقلة وهي تتمتم: "ينبغي أن أطلّ على الطبخة في المطبخ.. ثوان وسأعود.. لا تذهب!". هز رأسه مؤكداً الانتظار وأطرق قليلاً يفكر.. حياة أهله بالأمس أمست صوراً متآكلة الأطراف.. وحياتنا نحن، اليوم، نرسمها بألوان ستمسي باهتة حتماً بعد عشرات الأعوام..
لكلّ صورة حكاية. أوقفت عدسة الكاميرا ذاك المشهد عند لقطة واحتفظت به لتمضي الأيام سريعاً. ننسى الكثير مما فعلناه ولكن المخيف أن سجلّ أعمالنا عند الله لا يغفل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها..
أطرق محمد في عشرات الصور المتراكمة. أغلب أبطالها أمسوا في دار الحق، لو نطقت صورهم لطلبت منه أمراً واحداً فقط.. حسناً.. هو يدرك ما ينبغي أن يفعله..
"أمي، لن أطيل الغَيبة إنّما أريد أن أتوضّأ لأصلي ركعتين عن أرواح موتانا وأرحامنا المنسيّين".