سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله)
عندما نتحدّث عن العطاء، عن البذل، عن التضحية وعن الجهد، لا يجوز أن ننسى، على الإطلاق، من هم اليوم قمّة في العطاء والبذل والجهد والتضحية. قصدتُ أولئك الذين يبذلون دماءهم في سبيل الله، وفي سبيل الإسلام، وفي سبيل الأمّة، أعني: إخواننا المجاهدين.
*نحن اليوم أكثر أملاً
نشعر أننا أقرب من أي وقتٍ مضى من الأهداف الإلهية، ونحن اليوم أكثر أملاً من أيّ زمنٍ مضى. مع العلم أنه لم يكن هناك زمنٌ لا أمل لنا فيه. إنّ الله عزّ وجلّ يعلم أنّ قلوب المؤمنين المجاهدين لا تعرف اليأس، لأنّ القلب الذي يسكنه الله، والروح التي تتصل به تعالى، لا يمكن أن يتسلّل إليها يأسٌ على الإطلاق.
ولذلك، لم يكن هناك زمنٌ لا أمل لنا فيه. ولكننا اليوم أكثر أملاً من أي زمنٍ مضى. عندما نتطلّع حولنا نجد أنّ دماء مجاهدينا تُنتِج، وتُنجِز، وتنتصر وتستنهض، وهذا يعود بالدرجة الأولى إلى الجهاد المخلص والدامي الذي يباشره شبابكم وإخوانكم ليوث المقاومة الإسلامية. لكن نحن، يبقى علينا أن نحمل هذا العطاء لنوظّفه، لنكرّسه ونقوّيه.
* مراقبة النفس وإخلاصها
الله تعالى، أحياناً يُجري أموراً على يدي بعض عباده غير المخلصين وذلك لما فيه خير لهذه الأمة، ولهذا الإسلام. لذا، لا يكفي أن يُجريَ الله الخير على أيدينا لنظن أن هذا دليل تام على إخلاصنا، بل يجب أن نفتّش عن إخلاصنا بشكلٍ حثيثٍ ودقيق. إذا كنا حريصين على أن تكون الآثار عظيمةً لهذا الجهاد والتضحيات والعطاءات في الآخرة، يجب أن نُخلص لله عزّ وجلّ في ما نعمل. إنّ الله غيور، إنّ الله لا يقبل أيّ شريكٍ مهما كانت نسبةُ الشراكة محدودة وضئيلة. أن يعمل أحدنا عملاً صالحاً، هذا مهم. ولكن المشكلة هي: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف: 110) يعني يجب أن تكون العبادة، ويجب أن يكون العمل خالصاً لوجه الله عزّ وجلّ. هذا ما نحتاج أن نراقب أنفسنا فيه بدقة متناهية وبشكلٍ حثيث. لأننا، إن شاء الله، إنْ تمكنّا جميعاً من أن نُخلص النية في ما نعمل لله وحده، ستكون لنا هذه الآخرة الموعودة الطيبة، وسنُقبل على عالمٍ لا يوجد في اللغة ألفاظٌ وكلماتٌ قادرةٌ على أن تصفه، لذا، تُختصر الصورة كلّها بمقولة: "فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر".
ما نحتاجه هو هذا الإخلاص، صدقات المخلِصين أقوى أثراً، دماء المخلِصين أقوى أثراً، أعمال المخلصين أقوى أثراً... ولذلك القليل من العمل مع الإخلاص خيرٌ من الكثير من العمل بلا إخلاص. ما نحتاجه هو أن نُخلص لله عزّ وجلّ في ما نعمل ليقبل الله هذا العمل.
*بالإخلاص ينصرنا الله
إنّ هذه المقاومة هي مقاومته، عزَّ وجلّ. وعندما تصبح المقاومة مقاومته هو ينصرها وهو يُعينها وهو يؤيّدها وهو الذي يقاتل بها ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17). وعندما تُخلص المؤسسة لله، تصبح المؤسسة إلهيةً، هو يرعاها، هو يحلّ مشاكلها، هو يُخرِجها من المآزق، هو يقوّيها ويفتح أمامها الآفاق.
*إنسان إلهي
وعندما يصبح الإنسان مخلصاً وخالصاً لله عزّ وجلّ يصبح إنساناً لله، أو كما يقول الإمام قدس سره يصبح إنساناً إلهياً، قلبه وعقله وعينه ويده وسمعه وكل ما فيه إلهيّ. الله يرعاه، الله ينصره، الله يؤيّده، الله يسدّده. ألم يعدنا الله ذلك في القرآن: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69). ما نحتاجه، إن شاء الله، هو هذا الإخلاص الموجود عند كثيرين.
وإن كانت الرتب والدرجات والعناوين والمقامات هي شؤون اعتبارية وليست حقيقية ولا قيمة لها، أسماءً نحن سمّيناها، ما أنزل الله بها من سلطان، لكن كلما نزلنا في الرتب وكلما اقتربنا من عموم الناس أكثر، وكلما اقتربنا من هؤلاء الشباب الذين يحملون البندقية والذين يقتحمون المواقع، سنجد الإخلاص بينهم، هؤلاء الذين يقضون ساعات وأياماً طويلة في المناطق المحتلة، هؤلاء أشدُّ إخلاصاً لله ولرسوله.
*رضا الله من رضاهم
كذلك كلما اقتربنا من عموم الناس، من آباء الشهداء، من أمهات الشهداء، من هؤلاء المستضعفين والفقراء، وأغلبهم الذين يعيشون في أحزمة البؤس، سنجده صافياً، فإذا كنتم تبحثون عن الإخلاص وعن النقاء، إذا كنتم تبحثون عن صدق الحب لله تعالى ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيت رسول الله عليهم السلام فتشوا في هؤلاء عن الإخلاص، الذين لا اسم لهم ولا عنوان ولا درجة لهم. لا يُمدحون ولا يُذكرون ولا يقف لهم الناس إذا دخلوا إلى المجالس. فتشوا في قلوب هؤلاء، وفي أرواحهم. هؤلاء هم المخلصون.
أوصي نفسي وإخواني بالإخلاص والعيش مع المخلصين والتقرّب من هؤلاء المخلصين والتعلّم منهم. يجب أن نعرف قيمتهم وأن نقدّرهم. يجب أن نحصل على القرب منهم، على رضاهم، لأنّ في رضاهُم رضا الله عزّ وجلّ وليس لأهداف دنيوية. ما أجمل أن تدعوَ لك أم شهيد، ما أجمل أن تقوم بعملٍ يبتسم له يتيم، هنا العظمة، هنا القرب من الله، هنا الطهارة، هنا الإخلاص، هنا الاستمرار.
نسأل الله عزّ وجلّ لنا ولكم جميعاً حُسن العاقبة والتوفيق لكل طاعةٍ وخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(*) من محاضرة ألقاها سماحته بتاريخ 4/2/1995.