ندى بنجك
هو المكان.. عندما يحط فيه نثار من نسغ روحك، يجتاحك أو يظلّلك، يوقظ في عينيك ألقاً، وقد يعيد وجعاً، وفي كل الأحوال، ليس بإمكانك أن تمحو آثارك فيه، طالما أنها حكايات وذاكرة.
هي ليست بلدته، لكنها محط نوره وناره. وهو ليس أميرها الوحيد، لكنه ألقى جنب كل صخرة فيها شمس قلبه والظلّ، وأخبر ترابها أنه وحده حضن عشقه الذي سوف ينكشف للكل. يوم أراد أن يخبر كيف صار الله في حياته كل دنياه، وأنه ما عاد بإمكانه أن يبقى لحظة بلا عناق الله، أو يقنع أن ينتظر، فهو في لائحة الخواص استشهادي، ضجّت روحه، بأن آن أوان التنفيذ، فاختارها هي.
فلنترك "بنت جبيل" إذاً، تحكي لنا عن "ملاك".(1)
*بنت جبيل تحكي عن ملاك
تقول بنت جبيل: "رأيته ذات فجر، يغسل كفّيه بتراب المحور، عيناه دامعتان، ودمعه حنين وياسمين. آت هو لتوّه، مفتقداً أعزّ الرفاق وتوأم قلبه، الشهيد غسان علوية، الذي استشهد في عملية برعشيت النوعية من العام 87، فجاء صلاح غندور "ملاك" في اليوم الثاني مباشرةً، إلى محور بنت جبيل متفرّغاً للعمل العسكري، بعد أن كان عمله متنقلاً بين الجنوب وبيروت. إذاً، من هذا المكان، بدأ يحفر صوته وقبضته في كفّ الزمان".
*والروح أيضاً... ملاك
جاء إلى المحور مجاهداً لا يتعب. يقلّل من إجازاته، ويكثر من مشاركاته، وأينما حلّ، بشارة وجهه تطل. روحه مستبشرة دوماً، بأن التوفيق حاصل، إذا أخلص القلب لله سبحانه. أوجد لنفسه حضوراً غريباً وحباً وأنساً بين المجاهدين.إذا كان الاسم ملاك، فأي توصيف يليق بالروح!
رفيق معظم العمليات المؤثرة هو، ولا مجال لاستثنائه من مهمة خاصة أو مواجهة. يستلذ بكل خطوة وهو يعبر إلى العمق، ويسأل عن العملية التالية، من قبل أن ينهي مهمته. السجل حافل، وهو جدير بكل بطولة.
إذا أردْتَ أن تعرف شخصية المرء، روحه وعقله وأصالته، عليك أن تعرف من هو صاحبه! وهذا أمير الميادين "خالد بزي"(2) الحاج قاسم، كان صديقه، وحبيبه، وضلعه في كل نزال.. وهو مسؤوله الذي واكبه في مفصل العملية الاستشهادية.
*تاريخ وذاكرة
تآلفت روحاهما، وتناغمت، مثل الذوبان الذي يحصل بين الماء والسكر. إذاً، ما الحال عندما تَقرَّر أن يكون ملاك، هو من سوف ينفذ العملية الاستشهادية في بنت جبيل، والتي يتولاها بكل تفاصيلها، بدءاً من التخطيط وحتى لحظة الانفجار وإتمام التنفيذ، الحاج قاسم؟!
كان الموقف أكثر من صعب. انهمر شلال الشوق دفعة واحدة، وما حان الفراق بعد. هل يمكنك أن تفصل التاريخ عن الذاكرة؟ كان بين ملاك والحاج قاسم سنوات من تاريخ وذاكرة لم يفترقا فيها أبداً. التقيا في بيروت في البدايات النارية لعمليات المقاومة الإسلامية الجهادية. يروحان معاً، ويجيئان معاً. يتشاركان خدمة المجاهدين، يتبادلان القمصان، ويتقاسمان الماء والتمر.
*كما تريد يا سيد
أصرّ ملاك على أن يكون هو المنفّذ. قالوا له: "أنت كادر لا يستغنى عنك، أنت تدير عمليات، ودماغك متوقد، نحن بحاجة إليك..". قال لهم: "لن أقبل أن أفوت هذه الفرصة..". حتى كانت جلسته الأخيرة مع سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله). تحدّث معه السيد، على أن يكمل عمله ككادر ميداني نوعي، فكان جوابه: "في النهاية كما تريد يا سيد، ولكن اعلم أنني محب لهذا العمل الاستشهادي". تبسّم السيد وقال له: "اتكلنا على الله.. عمليتك هذه توازي عملية الاستشهادي أحمد قصير من الناحية السياسية والعسكرية.. وأنت منتصر بإذن الله".
ميدانياً، في انتظار ملاك سيارة خالية من أكثر القطع الأساسية، حتى من المحرك. كانت معطلة منذ فترة طويلة، وموجودة في بلدة الطيري. لكي تصبح سيارة، كانت بحاجة إلى إبداع ذهني، وبحاجة إلى تجليات زيارة عاشوراء التي لم تفارقها روح ملاك.
وبعد، انقضى كل شيء. السيارة جُهزت بشكل رهيب، وفي انتظار أن ينطلق بها فارس الاستشهاديين. قبل أسبوع من انطلاقه، أراد الحاج قاسم أن يبارك لملاك عمليته، وأن يكرمه بطريقته. فدعا مجموعة غير قليلة من المجاهدين والرفاق في المحور، على وليمة غداء. لا ملاك علِم، حينها، أن الوليمة تقام على شرفه، ولا الشباب علموا أنه سينفذ عملية استشهادية، سوى قلّة منهم. تُرى بأي نظرة كان الحاج قاسم يرقب فرحة ملاك، وهو لم يكفّ ساعتها عن ابتسامة تشق القلب، وتخرق الأرض؟!
*صوت الصلاة
إنها الأيام تقترب، لم يهمد قلب ملاك عن اشتياقه لموعد ينتظر، حينما ناداه صغيره "محمد" وهو لم يكن تجاوز العامين، "بابا..بابا"، لاحقاً به إلى خارج المنزل، حينما رأى والده يهمّ بتركه ويغادر. فينبغي أن يتلو وصيته، التي شاركه في كتابتها الحاج قاسم، فهي صوت الصلاة وعبق الدم. قال فيها: "إلهي تركت الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك، فلو قطعتني في الحب إرباً لما مال الفؤاد إلى سواك".
هو الآن سيمضي، ماذا يفعل؟ هل يكفي أن يعانقه؟ وعندما يعانقه هل بإمكانه أن لا يدمع؟! هذا ملاك رفيق الروح حقاً سيمضي، ماذا يقول له الحاج قاسم أخيراً؟
المشهد أعظم من أي وصف. بعد التصاق القلب بالقلب وقت العناق الأخير، لثمه بابتسامة الواثق المطمئن وقال له: "أنت سفيرنا إلى الجنة ما تنسانا". حينها عاد ملاك مجدداً إلى احتضانه، وأجابه بإشراقة الواصل: "إن شاء الله... ملتقانا قريب".
*مركز الـ17
ومضى.. في السيارة التي شارك ملاك في تجهيزها وملئها بالمتفجرات، بكميّة كان يطالب المعنيين بأن لا تكون قليلة، من أجل أن يضمن تناثر جسده إرباً إرباً كما عاهد الحسين معشوقه. كانت المهمة أكثر من حساسة. فالهدف في بنت جبيل هو مركز الـ17، وهو من أضخم المراكز الاستخباراتية والعسكرية الصهيونية في تلك المنطقة. فيه تحطّ القوافل ومنه تنطلق إلى داخل الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
ثمة لحظات خطيرة وحساسة رافقت تلك المهمة. القافلة الصهيونية تتأخر عن موعد وصولها، وهذا ملاك يعترضه في طريقه أكثر من حاجز لحدي، وأكثر من سؤال واستفسار، إلا أن ملاك الملائكي، استطاع بكل ذكاء وهدوء أن يتخطى كل الأسئلة والحواجز، وساعده وجود مجسم رجلٍ عجوز، أجلسه الإخوان بجانبه، حيث كان يُمنع أن يمر أي شخص وحده في السيارة.
*أنوار تشتهيها السماء
خمسة وعشرون دقيقة مرت، وملاك يتناغم مع حبيبه الحاج قاسم، في انتظار لحظة الوصول، إلى أن همس له ملاك "خلص مشي الحال" ورد سريعاً الحاج قاسم "الله معك..ما تنسانا". ثم جملة أخيرة من ملاك، "الله اكبر"، وضغط زر التفجير. تصاعد الدخان والنار، وعينا الحاج قاسم بصمت وبدمعتين تتبعان كل شيء.
تقول بنت جبيل، التي لم تعد بلدة الحاج قاسم وحسب، بل مكاناً اختتم حياة قلب، وبداية لآخر: "إني رأيته، مع كل حنين أو قيام مجد، يمضي إلى حيث صعدت روح ملاك أنواراً تشتهيها السماء، يمد كفّه إلى التراب، ليتناول كمشة، ثم يقرّبها من قلبه ويصغي، ماذا يقول له ملاك. يصغي ويبتسم، والضوء الشارد من عينيه، يجيب: "لا أنساك.. انتظرني، وإن طال الطريق، فبعد الزهر في نيسان حيث كان يومك.. سيطل صيف وبحر وعصافير".
1.الشهيد صلاح غندور الذي نفذ عملية استشهادية في مركز الـ (17) - بنت جبيل، بتاريخ 25/4/1995م.
2.الشهيد خالد بزي (الحاج قاسم)، شهيد الوعد الصادق بتاريخ 28/7/2006م