نسرين إدريس
قائد مواجهات مدينة بنت جبيل في الوعد الصادق خالد أحمد بزي (الحاج قاسم)
اسم الأم: خديجة بزي
محل وتاريخ الولادة: بنت جبيل 15/3/1966
الوضع العائلي: متأهل وله ثلاثة أولاد
رقم السجل: 34
محل وتاريخ الاستشهاد: بنت جبيل 28/7/2006
لا يزال ذلك التراب ندياً بعد طوفانٍ الدّم.. هناك حيث استشهد الحاج قاسم ورفيقه الشهيد محمد أبو طعام. حبّاتٌ رطبة، كانت عصيّة على تقلّبات الفصول وحبائل الشمس الساطعة. ربما كان ذلك هو التوقيع الأخير للرجل الذي مهر تاريخه الجهادي ببصماتٍ لا تذبل أزهارها، ولا ينسى العدو الصهيوني أزيز رصاصها.. بلى، إنه هو من عانق صديق العمر وأخذه بين ذراعيه، ليطلقه ملاكاً(1) في سماء صف الهوا - بنت جبيل.. بلى، إن في جبهته السمراء دار أحد عشر كوكباً، وقمر في مثلث رب ثلاثين – العديسة(2)..
عند كل تلٍّ، وفي أغوار الوهاد، عند ارتعاشة الفجر، والليالي المدلهمة، في حرّ الصيف، وقارس الثلج، وحدهما عيناه كانتا كجناحي النّسر المحلّق دوماً أعلى القمم يحرسُ أرضه.. هو خالدٌ في القلوب، كما الرصاصة في بيت نار بندقية المجاهدين. خالدٌ بتميزه في التخطيط والتطوير والمشاركة وقيادة العمليات، وأخيراً في الاستشهاد.. ربما كانت الأغنية التي حدت بها أمه له وهو في القماط، نبوءة غده، فكانت تحمله وصوتها الرقيق ينساب في أذنيه: " يا خالد يا خلودي، بإيدو سيف وبارودي، يا ربي يكبر خالد، ويحارب جيش اليهودي". إذاً، هي البندقية.. الأغنية التي نما عظمه وهو يسمعها، ورآها في عمر الطفولة، عندما رافق والده الملتحق آنذاك بالمناضلين الفلسطينيين، وعزف لحن السلاح على أوتار أصابعه عندما شبّ.. ومن خصوصية المنزل الذي وعى معنى النضال باكراً، إلى بنت جبيل عاصمة الثقافة ومركز ثقل التوجيه الديني، الذي صبغ روحه بالتدين وهو لا يزالُ فتىً غريراً، فارتاد المسجد باكراً لينهل من معين العلماء، واتخذ من زواياه نقطة انطلاقه في دروب الحياة.. في العام 1985 غادر خالد بنت جبيل، إثر اعتقال العدو الصهيوني لحوالي سبعين شخصاً، وكان هو في عمر التجنيد، فخرج من هناك بسرية تامة إلى صور، حيث مكثَ وأهله قبل أن يتوجه إلى بيروت لمتابعة دراسته الجامعية، التي سرعان ما غادر مقاعدها.. فقد بدأ آنذاك بالانخراط الحقيقي في صفوف المجاهدين، وكانت أمّه تنزل إلى الضاحية للبحث عنه، ومعرفة أخباره، فتارة تسمع أنه في الجنوب، وأخرى في مكانٍ آخر، فتعود إلى الأب قائلة له: من أخذه في صغره إلى مغاور النضال، لن يجده إلا في المغاور.. وحينما عرض إخوته عليه السفر إلى كندا، رفض وأصر على أن يبقى المهاجر إلى الله..
عاد الحاج خالد إلى الأرض التي يحبها، يمشي على جنباتها، يزرع عصفوراً من نارٍ هنا، وصقراً من فولاذ هناك، ويأنس بأصوات الوجع المنبعثة من العدو الصهيوني.. كان الحاج خالد اليد والعقل والعين والرصاصة في الكثير من عمليات المقاومة الإسلامية النوعية. ربّى أجيالاً من المجاهدين. لم يعرفه أغلبهم إلا بعد ارتقائه شهيداً، فلم يشارك يوماً في عملٍ وأخبر أحداً أنه القائد. لقد رفض الحضور في احتفالات التكريم، وأبى وضع أي درع أو وسام في منزله، وعاش عمره يفترش بِساط الطيبة والتواضع، ولم يرَ أحد في أي يوم من الأيام لمحة "الأنا" في عينيه. وكيف يكون كذلك من رافق الشهيد الشيخ أبا ذر، والاستشهادي صلاح غندور الصديق المقرب والحميم، وخضر الحاج الذي فتح جرحاً عميقاً بعد رحيله، والقائد سمير مطوط، وأسماء من الشهداء والجرحى المجاهدين لو أردنا كتابتها لنفد الحبرُ منّا؟!
لقد عاش عمره يتنقل من مكانٍ إلى آخر، وحافظ على أدق التفاصيل الأمنية في حياته. وقلة هم من عرفوه، حتى أن أولاده كانوا يتجنبون ذكر أسمائهم الحقيقية، لمعرفة أن اسم "خالد بزي" هو في العمود الأول للمطلوبين لدى العدو الإسرائيلي.. وفي مرّة، إبان الاحتلال الإسرائيلي، دخل على أمّه حاملاً معه وردةً فأخذتها منه وشمتها، ثم نظرت إليه مبتسمة قائلةً إن هذه الوردة من حوض بيتهم في بنت جبيل، فتعجب منها وأجابها أنه لن يجلب لها أي شيء بعد الآن.. إنه رفيق المجاهدين وأنيسهم، يتقاسم معهم خبزه وماله، ويحفظ ماء وجوههم، ويخدمهم بصمت وسرية، لأن أعظم الأعمال عنده هي صدقة السر. ولا يملُّ من إخبار القصص وضرب الأمثلة ليعظ ولا يؤذي، وكيفما تلفتَ يذكّرهم: "كونوا دعاة صامتين". لقد علّم من حوله كتم السرّ وكظم الغيظ، والتوكل المطلق على الله عز وجل.. ففي أحد الأيام وبينما كان وأحد المجاهدين في بيتٍ بعيد، شعرا بالجوع، فقشّر الحاج خالد البطاطا وبدأ بقليها، فسأله المجاهد: كيف سنأكل ولا خبز لدينا؟ فابتسم له: "سيرسل الله تعالى الخبز لنا بالسلّة".. لم تمضِ دقائق قليلة إلا وقد طرق الباب، وإذا بصاحب البيت قد جاء في غير موعده، وأخبرهم بأنه بينما كان يقف في الساحة، سأله أحدهم إذا كان يريد خبزاً فأجاب بنعم من دون أن يدري لماذا، وجاء به إليهما..
عندما كان يسمع باحتمالِ تعيينه في منصبٍ يبعده عن العمل الميداني في المقاومة الإسلامية، كان يجنّ جنونه، ويرفض أن يختار إلا المكان الذي يجعله أقرب إلى الشهادة.. وكم تلظى قلبه الرقيق بفقد الأحبّة، وقد شرب من كأس الغربة بعد رحيل رفيق الفؤاد صلاح غندور! فكان دائماً يغني له بحنو وشجى معاتباً: "يا عصفور ربيتك واعتنيت فيك، بكل ريشة من ريشاتك وبكل جانح من جوانحك.."..
أكثر من سبعة عشر عاماً في المواقع المتقدمة، خطط للعمليات العسكرية وشارك بها، رسم خارطة طريق العبوات، زرع الرعب في نفوس الصهاينة، حتى باتوا يعلمون أن عيني الحاج خالد بزي موجودتان في كل مكان.. وكان يوم التحرير من العام 2000، وما أجملها لحظات وأحبها إلى قلبه، وقد رفع ستارة الاحتلال بيديه، وكان ضابط إيقاع أروع ألحان النصرِ، حتى دخل مدينته بنت جبيل فاتحاً منتصراً.. وعاد الأسد إلى عرينه.. وإذا كان وضعه الأمني لم يسمح له بالاستقرار في مكان، غير أنه دأب على أداء الصلاة في المسجد. وأصر دوماً على قيامه بالزيارات الاجتماعية. ولم يستثنِ بيوت العملاء منهم. وعندما اعترض عليه أحد الإخوة دخوله إلى منزل عميل قضى عمره خائناً للوطن ولم يتغير، أخبره أن زوجة العميل وبناته ارتدين الحجاب بسبب زياراته، وأكد أن مثل هذه الزيارات تترك الأثر الذي يغير ما في النفوس..
ولأنه النموذج المؤمن المخلص، الرجل المنسجم مع خياراته، الواضح وضوح الشمس، تأثر به أبناء مدينته، وتعلموا منه الكثير.. عاشق الشهادة لم يختصرها بحبّات الدّم، فالشهادة عنده: "... هي الجهاد، هي صلاة الليل، هي صلاة الفجر، هي الصلاة في أوقاتها، الشهادة هي عدم الغيبة والنميمة، وعدم الكذب، الشهادة هي احترام الأهل والناس".. وكانت حرب تموز.. والعدو الذي ذاق مرارة عناد الحاج قاسم في القتال، عاد ليغترف منها من جديد.. لقد أرادوا أن يدمروا بنت جبيل، ولكن هيهات، والحاج قاسم يقسم أن لا يغادرها حتى وإن عبرت الدبابات جسده.. إنها منبرُ القائد المفدى سماحة السيد حسن نصر الله ومحرابه، والمنبر والمحراب يفتديان بالدّم..
خاض الحاج قاسم الحرب، وتلامذته المجاهدون معه يخوضون.. أعطى أول الدروس التأديبية للعدو في مارون الراس، حتى إذا ما حان دور بنت جبيل، تزلزلت الأرض تحت الأقدام.. في بنت جبيل، حكى الحاج قاسم أروع ما يحكى عن الجهاد والمقاومة والشهادة.. لامست بندقيته أكتاف الصهاينة الفارين، واصطاد منهم ما اتخمَ الطرقات والحقول.. ولكنها سنّة المعارك، لا يترجل الفارس عن جواده إلا مخضباً بالنجيع.. عندما حمله تلامذته على أكتافهم ووضعوه قرب مثواه، رفع الناس رؤوسهم مستغربين أمر عصفور أخضر اللون، كان يطير فوق الجثمان، وقد لامس رؤوس بعض المشيعين، قبل أن يفرد جناحيه من جديد وينطلق ناحية الشمس..
(1) الاستشهادي صلاح الدين محمد غندور (ملاك).
(2) الاستشهادي علي منيف أشمر (ذو الفقار) 21/3/1996.