تزخر المتون الدينية كالقرآن وكتب الحديث وكذلك كتب الفلسفة والعرفان الإسلامية، بالحديث عن العشق والحب وعن حقيقة المحبّة وجوهرها.
فمفردات من قبيل العشق، المحبّة، الشوق، الوصل، الفراق، وغيرها من المفردات الحاكمية عن جوهر العشق وفناء العاشق والمحب بمعشوقه ومحبوبه، كلّها تقع في صميم الأدبيات الإسلامية ولا يحتاج البصير أن يغوص بعيداً في أعماق الفلسفة والعرفان الإسلامي حتّى يدرك ذلك.
* الحب في القرآن والسنة
في الآية 23 من الشورى، جعل الله تعالى أجر الرسالة المودّة في القربى فقال: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾، وأوضح المعصوم عليه الصلاة والسلام ذلك حين سئل عن الحب أمِن الدين؟ فقال: "هل الدين إلاّ الحب والبغض" وفي الآية 31 من آل عمران يحدّد الشرط الأساسي للحب وهوالانقياد والإتباع فقال: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وفي الأدب الإسلامي سواء العربي منه أم الفارسي، بل وحتّى ما ورد في لغات أخرى من المجتمعات الإسلامية، نجد أنّ مساحة واسعة احتلها عالم الحب والعشق في جوعابق بأريج أدبي ساحر. وفي هذه المقالة الصغيرة سنحاول أن نسترق السمع لبعض ألحان "العشق" علّنا نلقي الضوء ولومن بعيد، على مكانته في الفلسفة الإسلامية والعرفان الإسلامي.
لقد تكلّم الفلاسفة كثيراً في مناظراتهم الفلسفية وأساليبهم المنطقية حول هذا الأمر وأظهروا تعلّقهم به وأنسبهم به، أمّا العرفاء فقد تحلّقوا بسرور في ساحة العرفان الواسعة واللامتناهية حول نور شمع "العشق" وعزفوا لحن "العشق" لمجع الروحانيين.
* ابن سينا والعشق
وضع الشيخ الرئيس أبوعلي سينا رسالة خاصّة في العشق، فصل الحديث فيها عن وجود العشق بدءاً من الوجود المادي وحتّى المبدأ الأول للوجود.
لقد ذهب ابن سينا في رسالته إلى وجود حالة من "العشق" بين المادّة والصورة الذي يرتكب منهما كلّ موجود جسماني، واعتبر أنّ التعلّق الحاصل بين النفس "الروح " والبدن هونوع من حالة العشق هذه. وهكذا فقد نصّ الشيخ الرئيس على وجود نوع من العشق العام سارٍ في جميع الموجودات بدءًا من الموجودات غير الحية وانتهاءً بالموجودات الحية.
ثمّ تحدّث ابن سينا عن نوع آخر من العشق أسماه "العشق الغريزي" وهوموجود في الموجودات الحية دون الموجودات غير الحية وفي النهاية يثبت وجود نوع من العشق الخاص بين الكائنات العلوية من الإنسان وما فوق كالملائكة.
إنّ كلام ابن سينا في هذه الرسالة من أروع ما قيل في هذا الشأن وهومؤثر جداً بحيث تراه يخرج رغماً عن إرادته من ميدان الفلسفة ليدخل عالم العرفان الساحر. وممّا قاله حول شوق المادّة للصورة "ما مضمونه ":
"أمّا المادّة فهي دائمة الشوق للصور المتلاحقة ولهذا فهي كلّما استعدّت صورة تبادر إلى إيجاد صورة أخرى وهي بذلك تشير إلى خوفها من العدم المطلق. وأساساً فإنّ جميع الهويات الوجودية تخشى من العدم وهي مشتاقة وعاشقة للصور الوجودية".
* صدر المتألهين والعشق
أمّا صدر المتألهين الشيرازي، فقد افترش في كتابه الخالد "الأسفار الأربعة" سفرة العشق فوق بساط الفلسفة، ونظم قصيدته في وصف مائدة العشق هذه باللسان الفلسفي فكانت من روائع الدهر.
وعلى طبق طريقة السير في الأسفار الأربعة يبدأ صدر المتألهين روايته في العشق من المادة الأولى وهي الواقعة في نعال الوجود، وهذا ما لم يتحدث عنه ابن سينا، ثمّ يعبّر في الأواسط نحوالغايات ليصل في النهاية إلى غاية الغايات ثمّ يفرد كلاماً في العشق الإلهي والجذبات الحقانية للسالكين وأولي الأيدي والأبصار.
يبدأ الملا صدر ولأول مرة في تاريخ الفلسفة الإسلامية المشرق بإثبات وجود الشوق والمحبّة في أصل المادة الأولى والقوّة الهيولانية بالبراهين والأدلّة السديدة، ويبين كيفية احتواء هذه المادة الأولى التي لا اسم لها على شيء من العشق وإنّها عاشقة للصورة الوجودية والحقائق الفعلية. ثمّ يتجه صدر المتألهين نحوالجمادات والمعادن والنباتات فيثبت لها جميعاً غريزة العشق، ويعتبر أنّ ما يرفع الكائنات الحيّة إلى مستوى الحياة الحيوانية هووجود غريزة العشق هذه فيها.
العشق الحيواني مشترك بين جميع الحيوانات ومن جملتها الإنسان، وهوفي هذه المرحلة عشق شهواني عار عن الفضائل أمّا العشق النفساني فهوخاص بالإنسان من بين سائر الحيوانات وهويفيد في إراءة الطريق ويختلف هوية عن العشق الشهواني. وبعد أن يبحث هذا الفيلسوف الإمامي الكبير بالتفصيل حول هذا النوع من العشق ينتهي إلى أن العشق الحقيقي هوعشق العبد لله تعالى ولأسماء وصفات وكمالات الحق جلّ وعلا. هذا العشق الحقيقي في نظره وطبقاً للبراهين العقلية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية. هوجوهر العبودية وغاية الخلقة، والمقصد الأسمى الذي ينشده الجن والأنس والملائكة بل الكون بأسره.
وهذا العشق هوالذي ينشده العبد لكي يقترب من مقام الربوبية ويتمتّع بمحبّة الله له "إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله" فجعل عشق الله تعالى وحبّه قائداً للاتباع والعبودية والتقرب من الله وهوما يستلزم محبّة الله تعالى للعبد وعشقه تعالى له، وهذا هوالمقصد الأعلى والغاية الأسمى.
* الإمام الخميني والعشق
يعتبر الإمام الخميني قدس سره من أبرز الفلاسفة والعرفاء الإسلاميين الذين أنشدوا نشيد العشق وترنّموا بنفحات الحب في عصرنا الحالي. وَلَكَمْ تفاجأ البعض بعدما اطلع على نثره الجذاب ونظمه الخلاّب في وصف المحبّة ومدح العشق والعاشق الحقيقي. ولا يسعنا في هذه العجالة ونحن نرتشف من زلال عرفانه الرقراق سوى الإشارة إلى العشق الجبلي في الإنسان دون سائر الموجودات يقول قدس سره:
"الإنسان عاشق الكمال المطلق بالفطرة، وما يريده الإنسان في الكمال الناقص هوكماله لا نقصه لأنّ الفطرة منزجرة من النقص. والحجب الظلمانية والنورانية هي التي توقع الإنسان في الخطأ"
ويقول أيضاً:
"إذا كان القرب مفرداً لعشق
الأعزاء فاخلوا المكان
فهذه الحانة لن تكون أبداً مأوى
لمن لا يملكون القلوب"
فالإنسان عند الإمام مهيّم تائه يبحث دوماً عن ضالته المنشودة ويقتفي أثرها يرمي نفسه في الماء تارةً وفي النار أخرى، ويتجه كلّ وجهة يمكن أن توصله إلى الكمال، وهناك ينحني أمامه عابداً لا يغفل عنه أبداً وكيف يغفل وقد اخترق ظلمات الوهم ومزق حجب الأهواء يقل قدس سره: "وهناك من اقتلع صدر الأهواء الأسود في أول ليلة من حياته وشده مع فجر سحر العشق بعشق الوصال والشهادة".
وما أروع ما يذكره الإمام في رسالته العرفانية المعروفة بـ"طريق العشق" حيث يقول:
وما دام الإنسان في حجاب نفسه ومشغولاً بنفسه، ولم يخرق الحجب وحتّى الحجب النورانية – ففطرته محجوبة، والخروج من هذا المنزل يحتاج مضافاً إلى المجاهدات إلى هداية الحق تعالى.
تقرأين في المناجاة الشعبانية المباركة: "إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك، إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ولاحظته فصعق لجلالك فناجيته سراً.."
كمال الانقطاع هذا هوالخروج من منزل النفس والنفساني وكلّ شيء وكلّ شخص والالتحاق به والانقطاع عن الغير وهوهبة إلهية إلى الأولياء الخلص بعد الصعق الحاصل من الجلال الذي يقع أثر اللحظ "ولاحظته.. "
وما لم تنور القلوب بضياء نظرته لا تخرق حجب النور، وما دامت هذه الحجب باقية فلا سبيل إلى معدن العظمة، ولا تحصل الأرواح على التعلّق بعز القدس ولا تحصل على مرتبة التدلّي "ثم دنا فتدلّى " وأدنى من ذلك الفناء المطلق والوصل المطلق.
أيها الصوفي يجب الحصول على الصفاء
من طريق العشق.
العهد الذي عاهدته به
يجب الوفاء به
ما لم يتحقّق لك وصال المحبوب، فيجب أن تفني نفسك في الطريق إليه".
أجل فما لم يفن العاشق نفسه فلن يحصل له الوصال، ومن ذاق طعم الوصل سيبقى ثملاً من حلاوة العشق المطلق والكمال المطلق منحصر فيه لا غير عندها يترنم نشواناً بقصيدة العشق كما كان الإمام قدس سره يترنّم قائلاً:
أنا فراشة شمع صبوح وجهك
أنا المفتون بممشوق بان قامتك
أنا المهيج المضطرب يا سيد الحسن من فراقك
ألا فارفع الحجاب عنّي أرفعه فأنا مفتضح بك
حين أنظر أيها الأحباء جيداً بتفكر
أخرج من قيد وجودي كله
ومكبّرا مكبّراً أوجه وجهي نحوالمحبوب
وأنزع عني خرقتي وأنقلب درويشاً
أيّها الحبيب نحن جميعاً مبتلون بحبك
إن تبعدنا وإن تقبلنا عندك
فنحن مقيمون ثابتون في درب آلام فراقك
ليس في أي من القلوب شوق إلى سواك
ليس لنا إلاّك منقذ ومجير
ما من أحد لا يحمل حبك أنت في قلبه
ألا فلْتُلبّ صرخة قلبنا
القلب الذي لا يذكرك ليس بقلب
والقلب الذي لا يخفق بحبك ليس سوى طين
ومن ليست له طريق على محلتك
ليس له خير من حياته المجردة من أي ثمر
يوم أمسيت عاشقاً لجمالك
جُننت بوجهك العديم المثال
رأيت إن لم يكن في العالمين سواك
فذهلت عن نفسي وغرقت في كمالك
ولما كان الحديث من العشق والعشاق في عرفان الإمام قدس سره، فقد آثرنا عدم التعرض له بالشرح والتوضيح، إذ أن كبار أهل المعرفة والذوق يحذرون الغوص في بحر عرفانه العميق، وإنّما أوردناه ليتذوق كلّ قابل على سعته وتسيل أودية بقدرها والحمد لله.