العلامة الشيخ محمد تقي المصباح اليزدي
يتناول كتاب "العودة إلى الذات وصياغتها من جديد" للأستاذ العلامة محمد تقي المصباح اليزدي الإنسان من زاوية كونه موجوداً يقبل التكامل... ويعتبر هذا الكتاب الصغير الحجم من أفضل وأهم ما كتب في هذا المجال. حيث يعرفنا على الجمال الحقيقي للإنسان وسبيل الوصول إلى هذا الكمال من خلال الاعتماد على دراسة التأملات الداخلية وعناصر الجذب الموجودة في أعماق الإنسان والتي تسير به نحو الكمال والعوامل التي تساعده في ذلك والظروف التي يمكن استغلالها للوصول إلى الهدف المنشود للحياة الإنسانية.
وقد حاول المؤلف إثبات ما يذهب إليه بالمعطيات الوجدانية والبراهين العقلية البسيطة غير المعقدة، إلا عند الحاجة وبمقدار الضرورة حيث أشار إلى الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت المطلب، والتي لا تخلو من تعقيد.
يمتاز هذا الكتاب على صغر حجمه بجامعيته، إذ أنه يعالج مسألة معرفة الذات وتهذيبها، من نواح عدة فلسفية وعرفانية ونقلية وبذلك أغلق كل منافذ الشك فيما يقول وأثبت أنه حق ويقين.
فعلى سبيل المثال خذ مسألة الارتباط الواعي بالخالق، حيث أوضح العلامة أن حقيقة كل موجود ما عدا الله تعالى هي عبارة عن ربط وتعلق بالله تعالى، أي أن الموجود الممكن هو عين التعلق والربط لا أنه شيء يعرض عليه الربط والتعلق... ومن خلال علمه الحضوري بذاته يمكن للإنسان أن ينكشف له نور من أنوار الذات الإلهية وتجلياتها: لأن إدراك الارتباط (حقيقة ذاته) لا ينفك عن إدراك المرتبط به، ثم يرفق هذا الدليل بالآيات الكريمة والروايات الشريفة مثل ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ 1 "وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز أقداسك" 2، ولا يخفى على القارئ اللبيب ما في الآية والرواية من المحتوى العرفاني الكبير.
والميزة الأخرى لهذا الكتاب هو العمق، وما ذكرناه أعلاه يكفي للدلالة على ذلك، بل أن مباحث الكتاب الأولى تظهر عمق المؤلف في دراسته للموضوع إلى أعلى المستويات، وما على القارئ الكريم سوى مطالعة مباحث الكمال، والحركة الاستكمالية وخصوصاً فصل "الميول الفطرية" ليتبين له الأمر، وينهي المؤلف الكتاب بمباحث عميقة حول الإرادة الإنسانية وطرق تنظيمها والسيطرة عليها وعلاقتها بجهاز الإدراك، ومن أهم مضامين الكتاب أيضاً برنامج عملي عام ودقيق في تربية الذات.
في الفصل الأول يبين المؤلف أهمية التعرف على الذات عقلاً وشرعاً، ويوضح أن المقصود من معرفة الذات هو معرفة الاستعدادات والطاقات الكامنة والممهدة للتكامل الإنساني، وبناؤها من خلال توجيه نشاطاتها الوجهة الصحيحة، وأن المقصود من العودة إلى الذات معرفة الكمال من خلال معرفة النفس دون أن يعني ذلك قطع الروابط الوجودية مع الآخرين.
وفي الفصل الثاني يسهب المؤلف في شرح وتحديد الكمال الحقيقي وتمييزه عن الكمالات المقدماتية، فالكمال الحقيقي لأي موجود هو ما تقتضيه فعليته الأخيرة، ثم يتحدث عن أنواع الحركات الاستكمالية ليخلص إلى أنه لا يمكن معرفة الكمال الحقيقي للإنسان من خلال التجربة.
في الفصل الثالث يحاول المؤلف معرفة الكمال الحقيقي والنهائي للإنسان من خلال النظر في الميول الفطرية واتجاهاتها، ويرى أن الميل الفطري للمعرفة العقلية منها والشهودية، والسعي الفطري الدائم، للقدرة والعطش الفطري للاتصال بمحبوب كامل جميل، كل ذلك يؤدي بالإنسان إلى الاتصال بالكمال المطلق والارتباط به ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾3.
ثم يعقد فصلاً خاصاً لإثبات إمكانية الارتباط الواعي بالخالق من الناحية العقلية والفلسفي ويؤيده بشواهد قرآنية وروايات وأدعية شريفة من أفضل ما جمع في هذا المجال، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا الموضوع، ويعتبر الكاتب أن أكمل مراتب الارتباط الواعي بالخالق أن يصبح الإنسان مرآة جلية ومظهراً كاملاً لذات الخالق "لا فرق بينك وبينهم إلا أنهم عبادك وخلقك".
وفي عدة فصول يجيب الكاتب على بعض التساؤولات والإشكالات التي تطرأ في هذا المجال، ويوضح أن القرب الإلهي الحقيقي هو عندما لا يرى الإنسان لذاته ولا لغيره من المخلوقات أية استقلالية لا في الأفعال ولا في الصفات ولا في الذات، بل حقيقة الجميع هو التعلق والربط، وإن سبيل الوصول إلى ذلك هو العبودية الحقة.
وينهي المؤلف مباحثه في فصلين مهمين حول دور جهازي الإدراك والإرادة في عملية الوصول إلى الكمال، فالعلم له دور الدافع لأن الحركة نحو الكمال اختيارية، وهو مقدمة للإيمان لأن الإيمان هو تصديق القلب بما صدق به العقل، وله دور مهم في توجيه إرادة الإنسان نحو الهدف الصحيح، كما أن الإرادة تساعد الإنسان في تهيئة مقدمات الاختيار والتنظيم والتوجيه لها، ولا يخفي أن الإرادة هي جوهر الإنسان.
وفي نهاية المطاف يذكر برنامجاً وعاماً ودقيقاً في نفس الوقت يصلح لكل إنسان في جميع ظروفه، وهو يتلخص بـ:
1- ناحية ايجابية:
أ- العبادة.
ب- التفكر.
ج- قراءة القرآن.
2- ناحية سلبية:
أ- عدم الاسراف في اللذات.
ب- السيطرة على الخيال.
ج- الابتعاد عن الانحراف الفكري.
1- سورة الحديد،الآية: 3.
2- المناجاة الشعبانية.
3- سورة الانشقاق، الآية: 6.