الشيخ بلال حسين ناصر الدين
لو كانت السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام بيننا اليوم، تنظر إلى ما آل إليه واقع المرأة وما يُرفع من شعاراتٍ مشبوهة، ولو بدت «برّاقةً»، باسم الحرّيّة والمساواة، لكان لها موقفٌ واضح وحاسم، يُعيد إلى الأذهان التائهة في غياهب الغفلة معنى الكرامة الحقيقيّة للمرأة ودورها الأصيل في بناء الحياة.
كانت عليها السلام لترى كيف تُدفع المرأة بفعل التشويه الإعلاميّ أحياناً، إلى أدوارٍ لا تشبه فطرتها، ولا تتناغم مع كيانها، وكيف يُراد لها أن تنسلخ عن رسالتها التي اختصّها الله بها، فتواجه هذا الانحراف بخطابٍ عميقٍ يُميّز بين الحرّيّة الحقّة والتحرّر الزائف. كانت لتقول إنّ الحرّيّة التي تنزع عن الإنسان قيمَه ليست حرّيّة، بل قيدٌ جديد في ثوبٍ برّاق يناقض عبوديّته لله أوّلاً، ويخالف ما يُصلح له دنياه. وإنّ المساواة التي تتجاهل اختلاف الدور والوظيفة بين الرجل والمرأة، لا تُنصف أيّاً منهما، بل تنسف معنى التكامل الذي أراده الله بينهما.
كانت عليها السلام لتذكّرنا بأنّ نهضة المجتمعات لا تُقاس بحضور المرأة في مكاتب العمل والمؤسّسات فحسب، ولا بدورها في الحركة الاقتصاديّة، بل بمدى رسوخ القيم التي تزرعها وتثبّتها في بيتها واستقرار أسرتها، وفي علوّ مكانة الأمومة التي هي ركيزة الوجود الإنسانيّ. إنّنا نرى ونلمس بالتجربة أنّ التوازن النفسيّ والمعنويّ لا يتحقّق إلّا حين تُصان الأسر وتُقدَّر المرأة في أدوارها المتعدّدة، لا حين تُختزل في صورةٍ استهلاكيّةٍ عابرة أو في هَوَس شهرةٍ وهميّة!
كانت عليها السلام لتكشف أيضاً عن خيوطٍ خفيّةٍ تمتدّ جذورها من أروقة المتحكّمين بالاقتصاد العالميّ، لتجعل من المرأة أداةً لتسويق البضائع والأفكار المنحرفة عن الفطرة السليمة، فتفضح التناقض بين الخطاب المزيّن بالحقوق والواقع القائم على الاستغلال! ومع ذلك، لم تكن لتدعو إلى انكفاء المرأة، بل إلى مشاركتها الواعية والفاعلة، بحيث تظلّ حاضرةً في ميادين العلم والعمل والإصلاح، من دون أن تتخلّى عن هويّتها أو رسالتها.
لو كانت الزهراء عليها السلام بيننا، لرفعت صوت المرأة التي تحفظ كيانها، وتتجلبب بثوب العفّة والحشمة، وتسعى قصارى جهدها في أن تكون شريكةً في بناء مجتمع راقٍ، تتجلّى فيه معالم الطمأنينة والسكينة، وهي تزرع في كلّ حركة منها بذور العطاء الإنسانيّ، في وجه من يزرع بذور الركاكة والتفاهة وحبّ الأنا.
لو كانت عليها السلام بيننا، لاحتضنت بحنوّ قلبها أمّهات الشهداء، اللاتي ارتقَين بقلوبهنّ ونفاذ حكمتهنّ، ليكنّ مصدر عزّة الأمّة وكرامتها في وجه من يعيث في البلاد والعباد فساداً.
بهذا المنهج المتوازن، كانت الزهراء عليها السلام، وهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتقدّم للإنسانيّة نموذج المرأة المسلمة في أسمى صورها: عالمةً متبصّرة، مؤمنةً بكرامتها، مدركةً لتحدّيات زمانها، قادرةً على الجمع بين الفكر والعاطفة من جهة، والحضور الاجتماعيّ والالتزام الروحيّ من جهة ثانية. كانت لتثبت أنّ الإسلام لا يقيّد المرأة ولا يختزلها، بل يمنحها فضاءً رحباً تتحقّق فيه إنسانيّتها وتؤدّي فيه رسالتها، في توازنٍ بديعٍ بين الرّوح والعقل، والواجب والحقّ، والذات والمجتمع.