إلى كل القلوب | مقاومتنا روحها حسينيّة (2)* تسابيح جراح| "مستعدّون بجراحنا" الشهيد على طريق القدس محمّد محمود إرسلان وسائل التواصل: معركة الوعي في زمن التضليل مقابلة | حين يرتقي القائد لا تنتهي المقاومة بل تستمرّ بدمه تكنولوجيا | كيف نمنع هواتفنا من التنصّت علينا؟ (1) الملف | أبناء السيّد متكاتفون عوائل الشهداء: أبناؤنا في سبيل الله الملف | أولو البأس في الميدان الملف | الكلمة للميدان

الملف | أولو البأس في الميدان

علي القاضي


هم "الأبطال الخارقون" حقيقة. لا نشاهدهم هذه المرّة عبر شاشات السينما، وإنّما نسمع قصص بطولاتهم وصمودهم كما حصلت على أرض الواقع، هناك عند جبهة القتال.

نستعرض في هذا المقال قصّتين من قصص مجاهدينا البواسل خلال المعارك التي خاضوها في قرى الجنوب اللبنانيّ في الحرب الأخيرة التي شنّها الصهاينة على لبنان في أيلول/ سبتمبر 2024م.

* القصّة الأولى: عشت مع الله 26 يوماً
"الذاهب إلى الحرب مفقود والعائد منها مولود"، استعاد المثل الشعبيّ المعروف مع تحريف بسيط، بينما كان يجهّز أغراضه للالتحاق بالجبهة!

كانت الحرب قد وصلت إلى يومها الأربعين حين اتّصل به الإخوة، بطريقتهم الخاصّة، ورتّبوا معه لقاءً، ليبلّغوه أثناءه بضرورة الاستعداد للالتحاق بعد ساعة واحدة.

أوصله الشابّ المكلّف بنقله إلى قرية تفصل بينها وبين مكان الالتحاق المفترض أربع قرى، واعتذر منه لأنّه لن يتمكّن من مرافقته في بقيّة الطريق، الذي سيكمله بمفرده سائراً على قدميه.

بدأ سيره تحت سماء تكاد لا تخلو من المسيّرات. كان عليه والحال هذه، أن يتوقّف مراراً للاحتماء عن أعين المسيّرات، ما أبطأ مسيره كثيراً إلى حدّ انقضاء ساعة كاملة قبل اجتيازه عشرات الأمتار.

ثلاث ليالٍ وأربعة أيّام على الطريق، ونوم في العراء وسط الحيوانات البرّيّة، فصلته عن الوصول إلى النقطة المتّفق عليها. حين وصل، اكتشف أنّ وحدته الممتدّة منذ أيّام ستبقى رفيقة له، فمن أتى للالتحاق بهم استشهدوا جميعاً!

كان أمامه خياران لا ثالث لهما: إمّا أن ينسحب متذرّعاً بذخيرته المحدودة واستشهاد الرفاق وانعدام الطعام والشراب ووسيلة الاتّصال، وإمّا أن يبقى لينفّذ الخطّة المتّفق عليها بمفرده متوكّلاً على الله، راضياً بقضائه، وليكن بعد ذلك ما يكون.

لم يتردّد لحظة في اختيار الخيار الثاني، فالأمر لا يحتاج في نظره إلى تفكير كثير، هذه معركة القتال حتّى الشهادة على درب الإمام الحسين عليه السلام، ممنوع أن يمرّ العدوّ من هذه النقطة من دون أن تطلق عليه طلقة واحدة قد ترهبه وتدفعه إلى تغيير خطّته.

"هذه معركة وجود، إمّا نحن وإمّا هم، إن كان سيّدنا قد ارتقى إلى حيث يليق به، فإنّ أمانته لا تزال بين أيدينا، أعطانا كلّ شيء ولم يبخل حتّى بحياته، ولم يبقَ لنا ما يمكن أن يبرّر أيّ تخاذل أو تقصير".

استقرّ في المكان، ورسم خطّة في ذهنه، فقد تعلّم من إمامه الحسين عليه السلام أنّ الخيار الاستشهاديّ لا يلغي ضرورة تهيئة الأسباب لإيلام العدوّ وخوض معركة حقيقيّة في مواجهته. استطلع أوضاع الحيّ واختار ثلاثة بيوت للمناورة، بحيث إذا تقدّم العدوّ أمكنه مشاغلته من أمكنة متعدّدة ليوحي له بوجود مجموعة من المقاتلين. وفتح ثغرات في جدران البيوت ليتحرّك بينها بسرعة ومرونة أثناء المواجهة.

حانت لحظة المواجهة، فتوكّل على الله، ونادى أهل البيت عليهم السلام متوسّلاً بهم إلى الله، وبدأ الاشتباك. من مسافة خمسة أمتار، رمى على جنود العدوّ كلّ قنبلتين معاً، لإيهامهم أنّ قبالتهم مجموعة كبيرة من المقاتلين. استمرّ الاشتباك ساعة كاملة لم يصب أثناءها بأذى، قبل أن يقرّر رفع مستوى الاشتباك ملصقاً قنبلتين بقذيفة "B7" أحدثت انفجاراً كبيراً أوقع إصابات مؤكّدة، إذ سمع صوت صراخ الجنود وعويلهم بوضوح.

منتظراً أن يشعلوا المكان بالقصف الثقيل، تراجع قليلاً إلى موقع مشرف يمكّنه من مراقبتهم والتحضير للتصدّي لهم من جديد في حال حاولوا التقدّم مرّة أخرى، ولكن من لطف الله وحكمته أنّ خوفهم دفعهم إلى التراجع وعدم تكرار المحاولة.

وحيداً، ومن دون وسيلة اتّصال، أو دعم، أو رفيق وأنيس، بقي البطل في موقعه حتّى اليوم الأخير من الحرب، يأكل ما يجده من برغل وشعيريّة بعد تليينهما بالمياه، وقد يجد علبة فول أو ذرة هنا أو هناك يسدّ بها جوعه الذي امتدّ عشرين يوماً.

"أنت مجنون"، قال له رفاقه بعد انتهاء الحرب وسماعهم حكايته. فقال إنّه مثلهم كان متفاجئاً بما حباه الله به من قدرة على الصمود. والحقيقة أنّه لم يكن متفاجئاً وهو الذي يعرف إيمانه وصلابته جيّداً، ولكنّ تواضعه في الحديث عن نفسه هو ما يدفعه إلى إنكار بطولته.

"كلّ ما في الأمر أنّ الله جعلهم يظنّون أنّهم قبالة جيش كامل، أليس هو القائل: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾"؟ يقول لرفاقه قبل أن يختم: "عشت مع الله 26 يوماً".

* القصّة الثانية: ملائكةٌ من بشر
اشتدّت الغارات، فقرّر الشبّان الثلاثة الانتقال من غرف الفيلا التي استقرّوا فيها في قرية من قرى الخطّ الأماميّ، إلى غرفة صغيرة تحتها هي أقرب إلى قبو. جمعوا أغراضهم الضروريّة واللبن وبعض الأطعمة، ونفّذوا ما اتّفقوا عليه.

ذهب أحدهم إلى مكان قريب فيه غرفة اتّصالات ليحاول التواصل مع أحد ما، إذ لم يبق أحد في المكان غيرهم، ولكنّه لم يعد.

أغارت الطائرات على الفيلا، فتيقّن الشبّان من صوابيّة خطوتهم بالانتقال إلى القبو الذي سيشهد استيقاظهما كلّ يوم لأداء صلاة الصبح، وإعداد القهوة على شعلة شمعة لم يكن لديهما وسيلة سواها.

لم يعرف صديق ولا عدوّ بوجود الشابّين في المنطقة التي أصبحت ساقطة عسكريّاً، وبات العدوّ متأكّداً من إمكانيّة الدخول إليها، معتقداً بعدم وجود أحد فيها.

وفي اليوم الثالث، وبينما هما يشربان القهوة، سمعا صوت جنود العدوّ على بُعد عشرين متراً منهما. لا خيار لديهما إلّا القتال حتّى الاستشهاد.

اتّفقا على صعود أحدهما إلى غرفة من غرف الفيلا المدمّرة لمشاغلتهم، على أن يفاجئهم الثاني بقذيفة "B7" من القبو في الأسفل.

بنداء "يا صاحب الزمان"، بدأ الأوّل بتنفيذ مهمّته من مكانه المكشوف والخطر، فالتفت العدوّ إلى وجوده وأطلق باتّجاهه مسيّرات من أحجام مختلفة حلّقت قريباً من وجهه لتقوم بتصويره في خضمّ الاشتباك.

في هذا الوقت، حمل الثاني قاذف الـB7 فتعطّل، فرماه أرضاً، وحمل بندقيّة أطلق منها طلقات قليلة قبل أن تتعطّل بدورها ويصاب في كتفه، بالتزامن مع إصابة زميله في يده وقدمه.

كان العدوّ قادراً على الالتفاف على المجاهدَين الجريحَين والدخول إليهما لأسرهما حيَّين ولكنّ جبنه منعه من أن يفعل ذلك.

وفي لحظة الاشتباك، كانت تحلّق حولهما طائرة "درون" مخصّصة لإذاعة كلام يتوخّى إحباطهما من قبيل "سيّدكم مات والحزب انهار ورفاقكم استسلموا"، ولكن أكثر ما فاجأهما هو منادات جنديّ صهيونيّ لهما بأسميهما بالعربيّة!

-" سلّموا حالكم، ونحنا منساعدكم ومناخدكم عند عيالكم وما تخافوا. حزبكم انهار والجيش الإسرائيليّ فات على كلّ الجنوب".

نزل الشابّ إلى زميله، واقترح أن يدخلا إلى نفق صغير أعدّ قبل الحرب مباشرةً لغرض الاحتماء، وقد أغلقت إحدى فتحتيه بفعل الغارة، مع ما يعنيه ذلك من مخاطرة إن أغلقت غارة أخرى فتحته الثانية، ولكن ليس ثمّة خيار بديل أمامهما.

حملا الأغراض الضروريّة ونزلا إلى النفق قبل قدوم الطائرات الحربيّة. وهناك، حيث لا يصل إليهما صوت، باشرا إسعاف ومساعدة أحدهما الآخر، فقد كانت جراحهما تنزف بشدّة.

وصل الطيران الحربيّ. كان خروج مقاتلين أحياء من منزل تعرّض للقصف والتدمير يعني بالنسبة إلى العدوّ وجود أنفاق. فكانت الغارات بواسطة قنابل خارقة للتحصينات هذه المرّة. بدا للشابّين أنّ النفق يرتجّ ويتحرّك يميناً ويساراً من قوّة الغارات.

تحت الحصار في مكانهما الجديد، كان على الشابّين أن يقتصدا في استهلاك "غالون" المياه الوحيد وعلب التونة القليلة. وبعد تسعة أيّام، كانت جراحهما قد التأمت قليلاً والمياه قد نفدت، فاستشار المصاب في كتفه رفيقه في الخروج لاستطلاع المكان، وكان من لطف الله بهما أنّ فتحة النفق لم تقفل بفعل الغارات.

كان ثمّة بيت هنا، تحول مكانه إلى حفرة كبيرة ابتلعته تماماً، ولكنّ "ركوة" القهوة التي أعدّاها قبل الغارة سلمت وحدها. أفرغ محتواها في عبوة بلاستيكيّة ونزل إلى رفيقه مجدّداً. الصديقان هادئان وصاحبا مزاج!

ولكنّ القهوة لم تكن وحدها ما ينقصهما، فاحتسياها وعادا إلى التشاور بشأن الخروج مجدّداً.

لجأ الصديقان إلى الاستخارة بالقرآن الكريم الذي لا يفارق أحدهما، فكانت الآية من سورة النور: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار﴾.

انطلقا متّكلين على الله في محاولة الوصول إلى مستشفى. ناما ليلة في منزل دخل إليه جنود العدوّ قبلهما وأمعنوا فيه تكسيراً، وجاءت الاستخارة هذه المرّة أيضاً بالآية ذاتها، فمشيا بحذر والمسيّرات فوقهما.

وصلا إلى بيت مهدّم لم يبق منه إلّا مكان ضيق، فباتا فيه ليلتهما التالية، واستخارا فكانت الآية ذاتها للمرّة الثالثة.

"الله معنا ولن نخاف شيئاً". انطلقا مجتازَين مسافة طويلة مكشوفة تحت أعين المسيّرات التي أعماها الله عنهما، حتّى وصلا إلى قرية لم يُدمّر الكثير من بيوتها، فدخلا إلى بيت ولكنّهما سمعا فيه أصواتاً، فقرّرا الاختباء قبل أن يكتشفا أنّ من في البيت رفاق لهما.

- "أنتما من الملائكة لا من البشر"، قال لهما الرفاق، "كيف خرجتما حيَّين من ذلك المكان؟".

تكرّرت الآية ثماني مرّات عند الاستخارة، فكانا يبيتان في بيت ويأكلان ما تيّسر لهما فيه من طعام قليل، ثمّ يمشيان مجدّداً، حتّى وصلا إلى بيت لعجوزَين وجدا فيه جهاز راديو سمعا من خلاله الأخبار، وثلاثة "كروزات" من السجائر التي كانا يتوقان إليها.

تركا البيت مجدّداً، وأكملا طريقهما سيراً على الأقدام إلى أن وصلا إلى حاجز للجيش اللبنانيّ، فنقلهما أحد عناصره في سيّارته إلى أقرب مستشفى، مقدّماً لهما في الطريق الماء و"البسكويت".

بقيا في المستشفى لأيّام وسط أصوات القصف والغارات، قبل أن يُنقلا إلى مستشفى آخر في مكان آمن لإجراء عمليّات جراحيّة لهما.

كلّ هذا، ولا يعرف أحد من عائلتيهما خبراً عنهما، حتّى أتى يوم طرق كلّ منهما الباب على عائلته عائداً من الجبهة، وفي ذاكرته أيّام لن تُنسى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع