وجهٌ خاصّ عرفه طلّاب العلم عن العلّامة الشهيد السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)، وهو الباحث المُفكّر دقيق الغور.
نعرض في هذه السطور وقفات مع بعض القيم التي وردت على لسان أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، بخصوص القتال وتوابعه، والتي قام سماحة العلّامة الشهيد السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) بشرحها وبيانها.
* العزيز والذليل عند أمير المؤمنين عليه السلام
يحتاج تحديد الموقف من المعتدي والمُعتدى عليه إلى ميزان ومعيار، كما يحتاج إلى شجاعة ومسؤوليّة، فكم من معتدٍ يحتمي بمواقف الناس الذين يحيطون به؛ لأنّه قويّ في نظرهم، أو لأنّه صاحب سلطة لا يُقاوم، أو صاحب يدٍ لا يُخالف، أو صاحب دهاءٍ ومكرٍ أخفى الواقع عن الناس فرأوه على عكس حقيقته! وكم من مظلومٍ تنكّر الناس لحقّه! إمّا لأنّه ضعيف لا يُعتنى به، أو فقيرٍ لا منفعة مرجوّة منه، أو قليل الحيلة لا يُحسن الدفاع عن نفسه ولا بيان حقّه. هذا كلُّه مستنبط من الواقع المليء بالأخطاء والمظالم والحقوق المضيّعة، وهو كلّه نتاج خلل في المعرفة أو البناء الإنسانيّ والدينيّ أو الاجتماعيّ المنصف عند الأفراد، بل حتّى عند المجموعات.
إنّ كلامَ الإمام عليه السلام: "الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَهُ، وَالْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ"(1)، قاعدةٌ ذهبيّة لاستقامة الإنسانيّة في نفس الإنسان، قبل أيّ ردّ فعلٍ تجاه الآخر، ومن يملك قدرة الفكر وشجاعة الموقف ينظر إلى الحقوق كما هي، فلا يتأثّر بعوامل منحرفة تكون سبباً لإلحاق الأذى بآخرين، فالمهمّ ليس معرفة الحقّ إلى جانب أيّ طرف فحسب، بل إنّ المهمّ هو الحكم على الذليل أنّه عزيز حتّى نتمكّن من إعادة حقّه إليه، وهذا يرتّب مسؤوليّة. وهكذا الحال في الحكم على الأقوياء الذين قد يصل بهم العدوان إلى حالة التجبّر والعلوّ والعتوّ في الأرض، فالإمام عليه السلام يعلّمنا؛ كي لا نؤخذ بظواهر خدّاعة، ونبقى مصرّين على إمساك خيط المعرفة والعدالة والإنصاف من طرفه الذي يُوصل إلى مستوى حفظ أمانة الحفاظ على حقوق الناس. فالمعتدي مهما علا كعبه يجب أن ننظر إليه بازدراء واستخفاف، ونتعامل معه على هذا الأساس، والمُعتدى عليه نتعاطف معه، ونقف إلى جانبه، ونعمل على استرداد حقّه، فلا يهدأ لنا بال حتّى تحقيق ذلك.
إنّ الأخذ بهذه القاعدة كفيلٌ بإصلاح المجتمع ورفعه إلى المستوى الداعي إلى الله بالعمل والممارسة، قبل أيّ كلام أو ادّعاء.
* النهي عن الغدر
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَلَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ"(2).
الحيلة دأبُ أهل السياسة في تحقيق مرادهم، وهي استخدام العقل والتجربة والأدوات المتاحة والموقع وكلُّ شيءٍ وقعت اليد عليه من أجل تحقيق الغاية بشكلٍ موارب. إلّا أنّ الإمام عليه السلام يثبّت قاعدة، هي أنّ الوصول إلى وجوه الحيلة لوحده ليس كافياً، بل لا بدّ للمؤمن من أن يعرض الأمر على الحكم الشرعيّ والقواعد الدينيّة والأخلاقيّة، فما كان منه مخالفاً للشرع ينأى بنفسه عنه، بينما الذي لا دين له لا يجد حرجاً في التوسّل بأيّ طريقةٍ، حتّى لو كانت سبباً في ظلم الآخرين أو الغدر أو الخيانة. إنّ توجيه الإمام عليه السلام يجعل للعمل السياسيّ عمقاً أبعد غوراً من الوصول إلى تحقيق مآرب سياسيّة أو عسكريّة كيفما كان، وحتّى الخديعة التي أجيز فيها في الشرع حال القتال، فإنّها غير مطلقة، ولا بدّ من أن تتقيّد بقيودٍ لا تُخرجها عن الهدف الساميّ للعمل السياسيّ المشروع في الإسلام.
وفي مورد آخر ورد من كلام له عليه السلام في توبيخ بعض أصحابه: "كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ، وَالثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ، كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ"(3). إنّ القائد بالمفهوم الإسلاميّ ليس هو الناجح في إدارة الموقف وتحقيق الهدف السياسيّ فحسب، وإنّما هو القدوة والقادر على امتثال الموقف الشرعيّ الذي يرضي الله تعالى قبل الناس، وهو الذي يعمل لإصلاح المجتمع بزرع القيم الصحيحة والعادلة وتكريسها، وقبل ذلك عليه أن يحافظ على الصلاح في نفسه.
* الحياة في موتكم قاهرين
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام وهو يحثّ الناس على الجهاد في صفّين: "قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ"(4).
لا يُفهم من القاعدة العامّة التي أطلقها الإمام عليه السلام "فالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ" أنّ المطلوب في مواجهة العدوان هو استرخاص الموت على أيّ حال، بل إنّ المبدأ الذي يقرّه الإمام عليه السلام ويريده أن يكون ثقافةً وطريقةً متّبعةً هو أن يعمل أهل الإيمان والحقِّ على قهر عدوّهم، من دون أن يكونوا مقهورين حتّى لو استلزم الأمر تقديم الأنفس؛ ذلك أنّ الهدف الساميّ لمعركة الحقِّ ضدّ الباطل يقتضي العمل على تحقيقه من دون الالتفات إلى الخسائر التي قد يخاف منها الناس عادة، وهذا يؤشّر على أهمّيّة الأهداف الإلهيّة في لحظة عدوان الباطل وأهله. ومن المعلوم أنّ جعل قهر العدوّ هدفاً دائماً، يُضفي على معسكر الإيمان، إلى جانب المشروعيّة، قوّةً مستمدّةً من المنهج القويم الذي لا يجوز تركه مهما كانت التضحيات. وإذا استقرَّ هذا المعنى، فالمطلوب من أهل الحقّ والإيمان أن يعملوا دائماً على تحقيق كلِّ مقدّمات النصر والقهر للأعداء وتوفيرها، وهو تعبير آخر عن قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ (النساء: 76) و﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ (الفتح: 10) ليصبح المعيار نصرة الدين كهدف، وليس الخسائر وحجمها. ولا يخفى ما لهذه الثقافة من بُعد نفسيّ وروحيّ نحتاجه في كلّ معركة في مواجهة أعداء الحقّ.
* القتال هدفه الهداية
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وَأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وَتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا"(5).
إنّ صريح كلام الإمام عليه السلام يفصح عن قاعدة ذهبيّة في العمل العسكريّ والسياسيّ، وهي أنّ القتال بذاته ليس هدفاً، بل إنّ أصل مشروعيّته وأهميّته في كونه طريقاً للهداية، خاصّة إذا كان في مواجهة الضالّين من المسلمين. بالتالي، فالإمام عليه السلام يعلّمنا أن تحقيق الغاية، إذا كان متيسّراً بالإقناع أو إلقاء الحجج أو حتّى التفاوض المشروع المحافظ على المبادئ والأهداف، فإنّه مقدَّم على القتال والخروج إلى الحرب، بل هو في نظر الإمام عليه السلام أفضل من قتل المسلمين وتحميل أعبائه على من سبّب في تحقّق هذه الضلالة والغواية وسفك الدماء بين المسلمين. وهذا الكلام يدحض كلّ ادّعاء يريد أن يوسم المسلمين بتعطّشهم للحرب والدماء، وأنّ الدين الإسلاميّ وتشريعاته تشجّع على الحروب والقتل وإراقة الدماء، فهذا كلّه نتيجة الجهل بالدين وأحكامه وغاياته. نعم، حين يكون القتال لازماً لمصلحة تخدم هدف الهداية، ولو بشكل غير مباشر، فإنّ المطلوب القيام بالوظيفة بكلّ شجاعة وثقة وعدم تردّد، كي لا يطمع الأعداء ولا تفوت المصالح. وإنّ القيادة الشرعيّة المسؤولة عن تحديد المطلوب وتشخيص الموقف لا تعتني بالمثبّطات ولا بالادّعاءات؛ لأنّ طريقها واضح، وحجّتها بيّنة، ويزيد في ذلك الإمهال وإفساح المجال لرأب الصدع وتجنّب المعارك.
إنّ هذه القاعدة تشكّل مرتكزاً أساسيّاً في فهم الرؤية الإسلاميّة للحروب والمشاركة فيها، وهي تصلح لكلّ زمان ولكلّ مرحلة، إلّا أنّ التشخيص بيد من له الأمر والنهي شرعاً.
* الاعتداد بالذات
من كلام الإمام عليه السلام: "وَمَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَلَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ، وَلَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ"(6).
من المزالق الخطرة التي ينجرف فيها المؤمن نحو الهاوية، هي اعتداده بذاته واتّكاله على نفسه أكثر ممّا يجب، فإذا نال حظّاً من العلم يُقفل على عقله وقلبه، فلا يستفيد من الآخرين، والأسوأ حين يصدّ الرأي الآخر قبل الاستماع إليه أو التمعّن فيه، وإذا أوتي بعضاً من سلطةٍ أو امتيازٍ تحكّم واستبدّ برأيه وأحكامه. فالإمام عليه السلام يعتبر أنّ الرجوع إلى الإمام، الذي أوجب الله عزّ وجلّ طاعته، هو ما يجنّب الإنسان الشبهات ويعالج المعضلات التي تكون سبباً -بحسب العادة- للانحراف والعناد والتشبّث بما يعتقد أو يرى، بينما الحقيقة الدينيّة أمّنت هذا الجانب الخطير، وجنّبت المؤمنين الانجرار نحو الآراء الخاصّة في الأمور المفصليّة والحيويّة، وألقت عن كاهلهم هذه المسؤوليّة في اتّباع إمام زمانهم وقيادتهم الشرعيّة. ومن نتائج هذا الاعتقاد أمران:
1. مهما بلغ الإنسان المؤمن من مقام علميّ أو موقع ذي شأن، عليه أن يبقى متواضعاً في اندفاعاته وخياراته المهمّة، والمطلوب التفتيش دائماً عن صخرة أمان يعتمد عليها فيأمن على نفسه وعلى من يتّبعه.
2. أنّ الاعتماد في الأمور المفصليّة اجتماعيّاً وسياسيّاً على آراء الناس كما هي لهوَ أمرٌ خطير في نتائجه وارتداداته وآثاره، وتكون الآراء معتبرةً إذا تمّ تغطيتها من القائد الشرعيّ أو استقت المواقف من المنابع الشرعيّة. ولعلّ الكثير من الويلات حصلت نتيجة تشتّت الناس والنخب في اتّباعهم لآرائهم الخاصّة غير المأمونة من الأهواء التي تنتج اختلافات وصراعات.
* السادس: العمل بالحقّ
ورد عنه عليه السلام: "إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ" (7).
إنّ قبول الحقّ في العادة أمر صعب، وإن كان ادّعاء قبوله شائعاً بين الناس، بينما العمل به هو أكثر صعوبة عند خواصّ الناس والمؤمنين، فكيف بعوامّهم؟ لذا، فإنّ أفضل الناس عند الله تعالى هم من قبلوا العمل بالحقّ وعملوا به حتّى لو كان خلاف مصالحهم ورغباتهم. فالذين يخضعون للحقّ في مقام العمل قليلون جدّاً وربمّا يكونون نادرين؛ إذ قد تجد علماء وخيرة المتديّنين حين يكون الحكم الشرعيّ لغير صالحهم من الصعب أن يقبلوا فيه، فكيف الحال بالنسبة إلى منكري الباطل؟
(1) نهج البلاغة، ج1، ص 89.
(2) المصدر نفسه، خ 41، ج 2، ص 312.
(3) المصدر نفسه، ج6، ص 102.
(4) المصدر نفسه، ج 3، ص 244.
(5) المصدر نفسه، ج 1، ص 12.
(6) المصدر نفسه، ج 6، ص 384.
(7) المصدر نفسه، ج 1، ص 80.