نهى عبد الله
-«هذا التنبيه الثالث، وبعده ستُحال إلى المحكمة العسكريّة».
لم يجبْ، اكتفى بأداء التحيّة العسكرية وانصرف. تكوّر على سريره، محاولاً دفن أفكار رأسه عبثاً. تحسّس جرحه، فانهالت ذكرياته دون أن تمهله فرصةً لينفضها. تذكّر حين أصيب بعد انتهاء الحرب بصدمة نفسية، قالت التقارير الطبيّة إنّه تجاوزها، ولكنّه يعلم أنّها مجرّد أوراق ليعود ويتابع مهامه فقط، فسلامته ليست مُهمّة، الهامّ الوحيد هو أن يلعب دوره بإتقان. ما زال يشعر بأنّ أشباحاً تحارب معهم، في حرب عام 2006م، كان قلبه يوشك على التوقف كلمّا لمح رأس أحدهم يطل، والكابوس إن نظر إليه، المخيف أنّ لا أحد يوقفهم. راح يتمتم بتوتر: «كنّا خمسةَ عشرَ جندياً من النخبة، كيف تجرأ وظهر أمامنا برشّاش فقط؟ كنّا نركض ونصرخ ونهدّده.. وكنّا نتراجع، وهو يتقدّم ويواصل إفراغ رصاصته في أجسادنا بدقّة، بسرعة، عيناه تعرفان أين نختبئ، وأين سنتحرك، كنّا كأهداف متحرّكة في لعبة ما بيده، صرع الجميع، وأنا نفذت بأعجوبة مع ذلك الجرح اللّعين. يستحيل أن يكون وحده، ثمّة أشباح في كلّ مكان. يا إلهي! إلى من يرسلونني لأقاتل؟!». تنهّد، وسرح خياله إلى أبناء عمّه الذين يتباهون بالتقاط صورهم في مزرعة العائلة، في قرية فرنسيّة صغيرة، وهم سعداء.
ثار غضبه، وراح يكيل الشتائم لوالده وجدّه، اللّذَين قررا الهجرة إلى هذه الأرض الغريبة، حيث مَهمَّتهم الوحيدة قتل الآخرين، فيما يعيش اليهود بمواطنهم الأصلية آمنين من هذا الرعب كلّه، صرخ: «أنا فرنسي، كأبناء عمومتي، ما شأني بهذه الأرض، وهذا الزيّ العسكري؟ متى ينتهي هذا الكابوس؟». وبيده المرتجفة، تناول أقراصه المهدّئة، قرأ على العلبة، «لعلاج الهلوسات»، رماها أرضاً وصرخ: «ولمَ ما زالت هذه الهلوسات تملأ رأسي؟! لمَ سأحال إلى محاكمة عسكريّة إذا رفضت الذهاب إلى الشمال؟ ولمَ .. ما زلت أخاف الحرب؟!».