لقد قيل عن السيّدة زينب الكبرى عليها السلام كثير من الكلام والتمجيد والتعظيم في الخطب والبيانات، ولكن ثمّة نقطتان مهمّتان في حياة هذه العظيمة سأعرضهما الآن.
* أوّلاً: القدرة الرّوحيّة العظيمة للمرأة
رغم أنوف أولئك الذين عمدوا إلى تحقير المرأة، سواء في ذاك الزمان أو في عصرنا، تمكنّت زينب الكبرى عليها السلام أن تُظهر علوّ مكانة المرأة وعظمة قدرتها الروحيّة والعقليّة والمعنويّة. أمّا من يحقّر المرأة اليوم وأكثر من الجميع، فهم هؤلاء الغربيّون أنفسهم الذين يهينونها بصورة خطيرة.
إنّ تلك العظيمة، زينب الكبرى عليها السلام، بيّنت نقطتين:
- الأولى: أنّه يمكن للمرأة أن تكون كالمحيط العظيم من الصبر والتحمّل.
- الثانية: أنّه يمكنها أن تكون قمّةً رفيعة من الحكمة والتدبير، وقد أظهرتها عمليّاً السيّدة زينب عليها السلام، ليس لمن كانوا في الكوفة والشام فقط، بل للتاريخ ولجميع البشر.
* ثانياً: الصبر في مواجهة المصائب
إنّ صبر زينب الكبرى عليها السلام وتحمّلها المصائب لا يُمكن توصيفهما أبداً، لناحية:
1. صبرها على الشّهادات والإهانات: ففي نصف يوم تقريباً، استُشهد أمام عينيها ثمانية عشر من أعزّائها وأقربائها، وواحد من هذا الجمع كان شقيقها سيّد الشهداء عليه السلام وولداها أيضاً، وصبرت. يتلاشى الجبل أمام مثل هذه المصيبة، لكن زينب الكبرى عليها السلام استطاعت أن تصبر، وتمكّنت بقدرتها الروحيّة من أداء الأعمال اللاحقة.
كما أنّ تلك السيّدة التي عاشت منذ بدايات عمرها في عزٍّ، وكان الجميع ينظرون إليها بعين الإجلال منذ الطّفولة حتّى كبُرت، تتعرّض للإهانة بذاك النّحو على يد أراذل الجيش الأمويّ وأوباشه، فتصبر ولا تنكسر.
2. الصّبر على احتضان الأبناء الأيتام والنّساء الثكالى: هذه مسؤوليّة ثقيلة وعملٌ عظيم، إذ استطاعت عليها السلام احتضان عشرات النساء والأطفال المفجوعين والمكروبين والمتأذّين، وأن تحافظ عليهم وتديرهم خلال هذه الرّحلة الشاقّة.
فضلاً عن الرعاية التمريضيّة للإمام السجّاد عليه السلام، وهذا كان يحتاج إلى الصّبر أيضاً، واستطاعت إنجازه على أكمل وجه.
* سلوكها تجاه الحكّام المستكبرين
إنّ سلوكها عليها السلام خلال مرحلة الأسر مذهلٌ فعلاً، إذ إنّه يرتبط بالحكمة والقدرة العقلانيّة والتدبير. كذلك هي مظهر الصّمود والاقتدار الروحيّ مقابل الحكّام المغرورين والمتكبّرين. في الكوفة حين ينطلق لسان ابن زياد بالشّماتة: هل رأيتم ماذا حلّ بكم؟ تُجيبه: «ما رأيتُ إلّا جميلاً»(1). وجّهت إلى ذاك المتكبّر والخبيث والمغرور صفعة. وأمام يزيد، عندما نطق بتلك الترّهات والتّفاهات وفعل تلك الأعمال، ألقت السيّدة زينب عليها السلام خطاباً وقالت هذه الجملة التاريخيّة فعلاً: «كِد كَيدك واسعَ سَعيك... فَوَالله لا تَمحو ذِكرنا»(2)، هذا ينمّ عن القدرة الروحيّة للمرأة.
* سلوكها أمام عامّة الناس
لكن حين تقف مقابل النّاس، ليس المكان موضع عرض الاقتدار بل التنبيه والتبيين، ومعاتبة الذين لم يدركوا ما فعلوه.
في الكوفة، تقول السيّدة زينب عليها السلام في خطبتها بعدما بدأ الناس البكاء بصوتٍ عالٍ: «فَلَا رَقَأَتِ الْعبْرَةُ وَلَا هَدَأَتِ الزَّفْرَةُ»(3)؛ ليت بكاءكم لا ينقطع! هل تدركون ما فعلتموه؟ «إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً»(4). لقد فعلتم ما قضى على جهودكم السابقة كلها.
* جهاد التّبيين ورواية الحقائق
هذه العظيمة عليها السلام أطلقت جهاد التبيين وجهاد الرواية. لم تسمح لرواية العدوّ عن الحادث أن تغلِب؛ عملت ما يجعل روايتها عن حادثة عاشوراء تسود حتّى يومنا.
فلترووا حقائق مجتمعكم وبلدكم وثورتكم. إنْ لم ترووها، فسيرويها العدوّ، وسيبرّر كيفما يشاء، وسوف يكذب، ويغيّر الواقع ومكان الظالم والمظلوم.
وهكذا، أظهرت زينب الكبرى عليها السلام بحقّ محيطاً من الصّبر والسّكينة، وهو نموذج المرأة القادرة على بلوغ هذه المرتبة العظيمة من القدرة الروحيّة والمعنويّة.
(*) من كلمة لسماحته دام ظله، بتاريخ 12-12-2021م.
(1) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 45، ص 116.
(2) المصدر نفسه، ج 45، ص 135.
(3) المصدر نفسه، ج 45، ص 163.
(4) المصدر نفسه.