فقه الولي | من أحكام الإرث (1) آداب وسنن | تودّدوا إلى المساكين مفاتيح الحياة | أفضل الصدقة: سقاية الماء* على طريق القدس | مجاهدون مُقَرَّبُونَ احذر عدوك | هجمات إلكترونيّة... دون نقرة (1) (Zero Click) الشهيد السيّد رئيسي: أرعبتم الصهاينة* تاريخ الشيعة | عاشوراء في بعلبك: من السرّيّة إلى العلنيّة الشهيد على طريق القدس المُربّي خضر سليم عبود من الحسين بن عليّ عليهما السلام خُطب الإمام الحسين عليه السلام: وعــظٌ وتبيين

الأدب الحسينيّ في الدعاء

حوار مع فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط
حاوره: الشيخ قاسم بيلون


“اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة”. في كلّ عاشوراء يعود هذا الدعاء ليقرع مسامعنا، ولا تكاد تسمعه حتّى تستحضر غريب كربلاء حين بقي وحيداً في تلك الظهيرة، وتنكسر النفس حزناً، وعندها تعبّر الدمعة وحدها. عن عبوديّة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء واتصاله بربّه وتوجّهه إليه ومناجاته إيّاه مع فيض الألم والوحشة، الحسين عليه السلام الذي لم يترك ذكر الله أبداً، وله في الدعاء أدبٌ خاص، وعن هذا الموضوع كان هذا الحوار مع خادم المنبر الحسينيّ فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط.

* بمَ يتميّز الدعاء الحسينيّ الذي تكرّر في يوم عاشوراء؟
تنفرد أدعية الإمام الحسين عليه السلام الواردة عنه في عاشوراء بمضامينها وألفاظها الخاصّة، التي جاءت في أوقات ومواطن عدّة ومختلفة، فبيّنت مجموعة من الحقائق المرتبطة بالعقيدة والمسائل الاجتماعيّة والنفسيّة والسلوكيّة، واتّسمت بسمات المناجاة والعروج في مراتب القرب من الله تعالى، وبلوغ منزلة العبوديّة الخالصة.

وإنّ مسألة الدعاء غايةٌ في الأهميّة، وجوهرها ومضمونها يُلحظان بلحاظ الداعي ومعرفته، فبمقدار ما يكون الأخير محقِّقاً للعبوديّة، يكون للدعاء الأثرُ والمضمونُ العظيمَان؛ ذلك أنّ دعائي غير دعائك وغير دعاء الآخرين، رغم أنّ الكلمات قد تكون واحدة.

من هذا المنطلق، حينما نغوص في أدعية الإمام الحسين عليه السلام، نكتشف ذلك العارف الذي لا عارف سواه في زمانه، وفي تفرّده، وفي وجوده، ومقتضى ذلك أن يكون الدعاء مختلفاً.

أمّا بالنسبة إلى الدعاء بشكلٍ عام، فنجد أنّ الله تبارك وتعالى يأمر به، حيث قال عزّ وجلّ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60). نلاحظ أنّه سبحانه ذكر لفظ (ربّكم) ولم يقل: (الله)، وهذا فيه إشارة إلى الشعور بالربوبيّة، أي أن تلجأ أنت كعبد إلى سيّدك وربّك. وفي الزيارة الواردة عن الإمام الحسين عليه السلام نقرأ: “السلام عليك يا وجه الله”؛ الوجهة، والتوجّه، والتوسّل، والتوسّط، هذه كلّها لها معنىً عقليّ واحد. ولكن من يكون الغاية؟ هو الله تبارك وتعالى.

صحيح أنّ مقام الإمام المعصوم عليه السلام مقام عظيم، ولكن هذا لا يلغي أن يكون عبداً لله، بل هو من أفضل عباد الله على الإطلاق، فيترجم العبوديّة بتلك الكلمات التي يبثّها في دعائه، وينشئها من حقيقته كما في دعاء عرفة أو أدعية عاشوراء التي ينبغي أن نقف عندها لأنّ الداعي هنا ليس شخصاً عاديّاً.

* ما هو مفهوم الثقة والعدّة في الدعاء الحسينيّ يوم العاشر؟
إنّ مقام الإمام الحسين عليه السلام لا ينفصل عن معاني كلماته والهدف منها ألا وهو تعليم الآخرين. ونحن عندما نقرأ هذه الأدعية، فإنّنا ننهل من هذا النبع الذي لا ينضب. على سبيل المثال: حينما يدعو عليه السلام بهذه الكلمات: ”لمّا صبحت الخيل الحسين، رفع يديه وقال: اللهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة“(1)، أراد عليه السلام أن يقول: أنت قدرتي، وقوّتي، ومالي، وجاهي. فحينما نعتمد على المتغيّر، الذي هو كلّ ما سوى الله، سنسقط، في حين عندما نتعلّق بالثابت نثبت ونطمئن. فلماذا نعلّق أنفسنا بالمتغيّر؟ أمّا الإمام الحسين عليه السلام فنراه يلجأ إلى الله سبحانه ويضع ثقته بين يديه، وكانت كلماته عليه السلام في مقام اللجوء إليه سبحانه بثقة واطمئنان وراحة.

* تكرّر دعاء الإمام الحسين عليه السلام في مواطن عدّة، ما هي خصوصيّة الزمان والمكان فيها؟
من المعروف عند أهل المعارف والعرفان أنّهم يشيرون إلى أنّه إذا استطعت أن لا تنام في الوقت ما بين الطلوعَين فافعل، جرياً على ما في الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام من كراهية النوم في تلك الساعة واغتنامها بالعبادة والدعاء، ويمكن مراجعة بعض هذه الروايات في أصول الكافي(2) وفي الوسائل(3) التي تتحدّث عن ذلك. وفي هذا الوقت كان دعاء الإمام عليه السلام بحسب ما ذكرنا:”لمّا صبحت الخيل الحسين، رفع يديه...“ إلى آخر الدعاء، ففيه إشارة إلى وقت الصباح، لما فيه من خصوصيّة الاستجابة.

كما أنّ الإمام عليه السلام دعا لنفسه في مواطن عدّة، وقد اختلف هذا الدعاء باختلاف الظروف والأمكنة، وهو لا يخلو من العواطف والأحاسيس. نذكر من هذه الموارد:

1. عند الوصول إلى كربلاء: حينما وصل الإمام عليه السلام إلى كربلاء مثلاً، تجده يقول: “اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء”(4).

2. ليلة عاشوراء: في تلك الليلة، جمع الإمام الحسين عليه السلام أصحابه عند دنوّ وقت المساء، فقال الإمام زين العابدين عليه السلام: “فدنوت لأسمع ما يقول لهم وأنا إذ ذاك مريض، فسمعت أبي عليه السلام يقول لأصحابه: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين”(5).

* المقاتل لا يظهر رجاءه، فكيف نقرأ مشهد لجوء الإمام الحسين عليه السلام إلى الله أمام الأعداء؟
لقد لجأ الإمام عليه السلام إلى الله في كربلاء في موارد عدّة، فها هو في أرض الطفّ يدعو: “الّلهمّ متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّاً عن الخلائق، أرغب إليك فقيراً”(6)؛ أنا عين الفقر.

وهكذا في بقيّة عبارات دعاء الإمام عليه السلام حيث يقول: ”وأتوكّل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا بالحقّ، فإنّهم غرّونا وخدعونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك، وولد حبيبك محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً برحمتك يا أرحم الراحمين“(7).

دعاء الإمام عليه السلام يتكلّل بالثناء على الله، ويعرض المشكلة والقضيّة، يُبرز أنّ له ملجأً شديداً خصماؤه يخافونه، وهو يوكل هذه القضية كلّها لله، فيكون خصمهم أيضاً، ويبرز أنّه هو صاحب الحقّ، لذلك، فإنّه يقف موقفاً قويّاً في الحقيقة رغم قلّة الناصر في الظاهر. وأيضاً يبرز الالتجاء إلى الله سبحانه يوم عاشوراء، في الدعاء الذي يقول فيه:”كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة“(8)؛ ففي هذه الأدعية تتجلّى الطمأنينة والتسليم لله تعالى بشكل مطلق، مهما كانت النتيجة، ومهما كانت البليّة، لأنّ ما يخفّف نزولها على المؤمن هو أنّها “بعين الله”. هذه الأدعيّة كم علّمتنا كيف ننظر إلى الاختبارات الإلهيّة الصعبة! وكذلك دعاؤه عليه السلام قبيل شهادته بعد أن بقي ثلاث ساعات من النهار ملطّخاً بدمه، رافعاً طرفه نحو السماء وهو يقول: ”إلهي صبراً على قضائك، ولا معبود سواك، يا غياث المستغيثين“(9). في هذه المناجاة يعلّمنا لغة الحبّ، وأنّ هذه الساعات الصعبة ما هي إلّا سجدةٌ للمعبود الأوحد.

* كيف نقرأ بعض أدعيته عليه السلام في أشدّ اللحظات صعوبة وقسوة من قبيل: "اللهمّ خذ حتى ترضى" و"هوّن ما نزل بي أنّه بعينك"؟
هذه المواقف تعبّر عن أداء التكليف والأمر الإلهيّين، بمعنى أنّ الإمام عليه السلام يشير إلى أنّه قد أدّى تكليفه. وهذا ما عبّر عنه أيضاً أمير المؤمنين عليه السلام في عبارته المشهورة: “فزتُ وربّ الكعبة”، باعتبار أنّ الابتلاءات والامتحانات كلّها كانت مقدّمة للوصول إلى حادثة الضربة، والتي هي الفوز العظيم. وبهذا السياق أيضاً نفهم قول السيّدة زينب: “ما رأيتُ إلّا جميلاً”(10) في مقام أداء التكليف.

ومن جهة أخرى؛ هذه العبارات كانت مدرسةً حسينيّة في التعالي والتسامي فوق أي مكروه؛ وأنّ حسينيّي النهج يقدّمون أنفسهم برضى وقوّة وبوعيٍ تامٍّ بالقضيّة، فيهون الثمن وتهون الآلام، والحسينيّ لا ينهزمُ قلبُه، وهو مطمئنٌّ بالله مهما ضربته السهام.

* ما هو أثر دعاء الإمام عليه السلام على أعدائه؟
نجد في بعض أدعيته عليه السلام دعاءه على القوم أو على الأفراد، مثل: ”الّلهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا“(11)، وهذا لا يتنافى أبداً مع الرحمة الإلهيّة، فأقوام الأنبياء عليهم السلام، بحسب ما يظهر من القصص القرآنيّة، كانوا يصرّون على الذنوب، رغم كلّ ما بذله أنبياؤهم، ولكنّ حقيقتهم كانت: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (المؤمنون: 75) ، فقابليّتهم أضحت مغلقة لا تريد رحمة: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 118). وهذا يفسّر موقف الإمام عليه السلام من أعدائه لصلافتهم، وقساوة قلوبهم، وجمود أعينهم، وانسلاخهم عن المشاعر. وقد ورد في الكتب المعتبرة أثر دعائه عليه السلام عليهم كأفراد وأنّهم لمسوا حقيقة أن يدعو عليهم وليٌّ لله، ومن جهة أخرى يُنقل أنّ في الأعداء من سمع دعاءه عليه السلام ولبّى نداءه.

إنّ عِظَمَ البلاء وخطورة الموقف ينبغي أن لا يزيدانا إلى الله لجوءًا ودعاءً فحسب، بل أن نكون راضين مطمئنّين، واثقين بأنّ الدعاء لله صلة وثقة، وأنّه مددٌ ونصرٌ ولو بعد حين.


(1) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 96.
(2) انظر: أصول الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 522، ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾، قال: «هو الدعاء قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وهي ساعة إجابة».
(3) انظر: وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 6، ص 496، ما ورد عن محمّد بن مسلم عن أحدهما قال: سألته عن النوم بعد الغداة، فقال: «إنّ الرزق يُبسط تلك الساعة فأنا أكره أن ينام الرجل تلك الساعة».
(4) بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، ج 44 ، ص 381.
(5) إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ج 1، ص 455.
(6) مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي، ص 827.
(7) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 98، ص 348.
(8) الإرشاد، مصدر سابق، ج 2، ص 96.
(9) أهل البيت في الكتاب والسنّة، الشيخ الريشهري، ص 290.
(10) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 45، ص 116.
(11) المصدر نفسه، ج 45، ص 43.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع