نجوى الموسوي
«لا تتشاءم يا بُنيّ، لن يفوتكم خير زيتوننا هذه السنة. انظر، هذه الشجرة على اسم ابنتِك وحبّاتُها بسواد عينيها. وهذه على اسم ابنك، حبّاتها مثل عين الأسد الذي قابله جدّي. هل تذكر قصّته؟ هل تذكر يوم وصل الجدّ الكهل من صوب الجليل مع آخر عدوة لحصانه، وصعق بخبره كلّ الأقارب؟
هزأ بعضُهم به، وحسبوه مخبولاً يهذي. لكنّ الحكماء قالوا: بلى، إنّ للأسد الأبيض نظرة الفيروز، وإنّه طلع بلا شكّ من إحدى الصحارى، ثمّ قصد غابات البلاد التي تلوح لقريتنا. قالوا إنّ ظهورَه مؤشّر على أيّام بيضٍ قادمة، وإنّ الخيط الأَسْود سينجلي، وإنّ نصراً سيلوح حين تكثر الأسود.
وأنا يا بنيّ، لحظةَ عانقتُ هذا الزيتون على بُعد رشقة حجر من ترابنا المحتلّ، لمعت أمامي عينُ الأسد الأبيض بزُرقتها، وتمثّلتُ عينَي جدّي تحدّقان بها، وسمعتُ تأويلات إخوان سلاحه، وشممتُ رائحةَ أخبار قادمة مثل خبره، ثمّ دخلتْ رائحةُ الجنّة دماغي. هذا الزيتون يا بُنيّ فيه زيت الجنّة وماء كثير، ومن الماء تُعصر حياة. اذهب أنت إلى بيتك، سأجني مع والدك ما أجنيه، وأعدك برسالةٍ كلّ فجرٍ وغروب».
تنهّدَ واستسلم لإرادة الوالدة، ثمّ نقل من سيّارته لفّة «النايلون» المخصّص لتلقّي الحبوب أثناء «الحواش». واسى نفسَه بعودته في عطلة الأسبوع ليحمل ولدَيه إلى حضنِ الأجداد والظلالِ، وليحمل الغلّة إلى المعصرة.
وجاء بارّاً، قبل انقضاء تشرين، لكنّ الحشد في هذه العودة عاونه وهو يحمل جثمانَ أمِّهِ الشاهد إلى المقبرة.
ها إنّه يجلس وحيداً قرب ركامِ الصاروخ «العشوائيّ» أو «المقصود»، إلى جانب «شوال» السندس الراشح وعطر القطاف.
يجلس مُطرِقاً. يسمع ما روته الوالدة عن عين الأسد الأبيض بفهمٍ جديد. ومع كلّ طلقة ترنّ فوق البيوت المحرَّرة يسمعُ طرقةَ حبّة زيتون تفرّ من الغصن إلى أكفّ الأحباب، ثمّ يقرّب «كمشةً» يلامسُ بها وجهَه، ويهمسُ: «زيتٌ ثمنه من دم، هل يذوب طعمُه؟».
(*) إنتاج جمعيّة «أنوارٌ بيننا»، قصّة مهداة إلى العابرات نحو الجنّة في جوار فلسطين.