مع الإمام الخامنئي | لا تنبهروا بقوّة العدوّ* نور روح الله | لو اجتمع المسلمون في وجه الصهاينة* كيف تكون البيعة للإمام عند ظهـوره؟* أخلاقنا | كونوا مع الصادقين* الشهيد على طريق القدس عبّاس حسين ضاهر تسابيح جراح | إصابتان لن تكسرا إرادتي(1) على طريق القدس | «اقرأ وتصدّق» مشهد المعصومة عليها السلام قلبُ قـمّ النابض مجتمع | حقيبتي أثقل منّي صحة وحياة | لكي لا يرعبهم جدار الصوت

الأسرة بين هاتفٍ ذكيٍّ وتواصلٍ موهوم

د. أحمد الشامي


ما إن يُطرح موضوع الهاتف الذكيّ بما أحدثه من ثورة على مستوى الاتّصال والتواصل بين البشر، حتّى تتبدّى تلك الصورة النمطيّة الآخذة بالتوسّع عن حال الأسرة، وقد اجتمع أفرادها في جلسة عائليّة يفترض أن تكون دافئة وأنيسة، بينما في الحقيقة، يغرق كلّ واحد منهم في اتّصال مع البعيد في العالم الافتراضيّ، وينقطع عن القريب رغم أنّه أقرب إليه في العالم الواقعيّ.

يُشرّع هذا السلوك الاجتماعيّ المثير للاستغراب باباً لطرح سؤال موضوعيّ حول السبب الأساسيّ الذي جعل هذا الجهاز ينضمّ بقوّة إلى قائمة العوامل المؤثّرة في هذا الشكل من التباعد الأسريّ: هل ذكاء الهاتف وما يتيحه من دهاء يدفع بعض أفراد هذه الأسر إلى استخدامه بشكلٍ غير واعٍ؟ أم أنّ عدم وعيهم لمخاطره هو ما يظهره على هذا القدر من الذكاء والدهاء؟

* الهاتف يهدّد الأسرة
تجتاح مجتمعاتنا ظواهر مقلقة وخطيرة -كمّاً ونوعاً- ترافقت مع اجتياح هذا الوافد الجديد واستقراره في صلب حياتنا، بحيث صرنا نقتنيه بوصفه دليلاً على مواكبتنا للحداثة، فننفق من أجله الكثير من مواردنا، وقد جعلناه بمثابة خبزنا اليوميّ الذي يمدّنا بالحياة، حتّى لو تطلّب ذلك منّا الاقتصاد والتقشّف في احتياجاتنا الأساسيّة لصالحه.

الأصل في سهولة الاتّصال بين البشر أن يجعل هذا الهاتف الذكيّ حياتهم أجمل، ومعرفتهم أفضل، ووعيهم لما يجري حولهم أوضح، بينما في الواقع، يشار إليه على أنّه صار سبباً أساسيّاً من أسباب التفكّك الأسريّ، والطلاق العاطفيّ، وتفشّي ظواهر الخيانة الزوجيّة وأشكال الشذوذ الاجتماعيّة، وانكشاف الخصوصيّة الأسريّة، ومجالاً للاستغلال الماديّ والجنسيّ وحتّى الأمنيّ، إلى جانب ما يحدثه على المستوى النفسيّ من رغبة في العزلة، والشعور الدائم بالقلق والتوتّر، والعنف، وغيرها من الأمور.

* المشكلة ليست في الهاتف
صحيح أنّ هذا الهاتف لديه قابليّات تسهم في صنع التهديد عبر هذه الظواهر المقلقة والخطيرة، ولكن ذلك لا يلغي أيضاً أنّ فيه الفرص لتطوير العلاقات الاجتماعيّة والحياة وتسهيلها وتوفير كمٍّ كبير من الجهد والوقت في بعض المعاملات، وهذا يعني أنّ شأنه كشأن أغلب الوسائل المتطوّرة التي شهدتها البشريّة، فلمّا استعملها بعضهم بوعي كانت خيراً لهم وللآخرين، بينما حين ضعف هذا الوعي برزت تلك الشرور.

وما يؤكّد ذلك، أنّ الداخل إلى منصّات البحث في مجالات الكتابات العلميّة والتربويّة سوف يجد أمامه كمّاً من المعطيات التي تشير إلى حجم التداعيات التي يحدثها سوء استخدام الهاتف الذكيّ على حياة الأسرة، في الشرق كما في الغرب، دونما أيّ تفريق بينهما، ويلاحظ ما يمكن وصفه بالإجماع على الحقيقة، أنّ حجم التأثيرات يرتبط بمقدار الوعي الذي يملكه المُستخدم لهذه الوسيلة المتطوّرة.

* محفّزات الإدمان على الهاتف
نتيجةً لذلك كلّه، بات من الضرورة المكاشفة والمصارحة حول حقيقة الاستخدام غير الواعي للهاتف الذكيّ داخل الحياة الأسريّة. والسؤال الذي يجدر التوقّف عنده هو: ما هي دوافع الهروب من الواقع الأسريّ حتّى بات ثمّة الكثير من المحفّزات على هذا الإدمان؟

هذا ما يفتح الباب على العديد من الإجابات المستندة إلى معطيات وليس تكهّنات:

1. الاقتناء المبكّر للهاتف
من المؤسف القول بأنّ الأهل هم من أسّسوا علاقةً غير واعية مع الهاتف الذكيّ؛ لأنّهم يتساهلون مع أطفالهم ويسمحون لهم باقتناء هذا الجهاز في عمر مبكّر رغم علمهم أنّه صندوقٌ مليء بالخير والشرّ على حدّ سواء، ظنّاً منهم أنّهم بذلك يستجيبون لحاجة اجتماعيّة وتربويّة لديهم في هذا الزمن، ولكنّها في الواقع حاجات كرّسها الإعلام بنظريات واهية ألبسها لبوساً علميّاً، بينما همّه الأوّل الترويج للاستهلاك. وما زاد من خطورة الأمر، هو عدم مراقبة الأهل لكيفيّة استخدام أطفالهم لهذا الهاتف.

2. عدم تأدية الأسرة دورها
إنّ الوظيفة الأساسيّة للأسرة هي أن تنتج إنساناً سويّاً، مشبعاً بالقيم الإنسانيّة العليا التي تمكنّه من المشاركة الإيجابيّة في الحياة. وحين تتغافل عن تأدية هذه الوظيفة بأدوارها المتعدّدة، فإنّه من الطبيعيّ أن يتّجه أفرادها لتلبية هذه الحاجة الطبيعيّة عن طريق الآخرين، والأمر يزداد سوءاً في ظلّ وجود هاتف ذكيّ هو الأقرب بالنسبة إلى أيّ شخص، ومعروف بقدرته الجاذبة لقيم غربيّة شاذّة. لذلك، ليس مستغرباً كلّ ما يسجّل من انحدار قيميّ وتراجع في الانتماء الدينيّ والأسريّ والوطنيّ.

3. إهمال الأهل لأبنائهم
إنّ الأهل هم من أسهموا في انجذاب الأبناء نحو البعيد عوضاً عن القريب، فما بالك بحال هؤلاء عندما يجدون ذويهم غارقين في بحر العلاقات الافتراضيّة التي يوفّرها لهم الهاتف، وقد صاروا يتجنّبون مجالستهم والحوار معهم والأنس بهم! ومن ناحيةٍ أخرى، عندما يتحوّل المنزل إلى ساحة للصراع والتوتّر وليس للألفة والمودّة، تنشأ لدى الأبناء الرغبة في العُزلة عن القريب. من هنا، بات الهاتف مصيدة لجميع أفراد هذه الأسر، بعدما وجدوا فيه ملاذاً يملأ فراغهم ويؤنس وحشتهم.

4. مغريات الهاتف الكثيرة
تؤكّد الدراسات بأنّ الهاتف الذكيّ يقدّم استجابة مغرية لحاجات مختلفة لدى أفراد الأسرة، وإن كانت غير واقعيّة، وهذا من شأنه أن يقلّل رغبتهم في الاندفاع لإصلاح واقعهم، فبدل أن يعمد هؤلاء إلى مواجهة المشاكل التي تنشأ بينهم، نراهم قد لجأوا إلى أحضان هذا العالم الافتراضيّ هرباً من مشاكلهم، ممّا يعمّق الخلافات والتباعد في ما بينهم.

5. الرغبة في كشف الخصوصيّات
غريب هو هذا التحوّل في الرغبة بالكشف عن خصوصيّات الأسرة؛ ففي الماضي، كان من المعيب وضع الصور الشخصيّة في الغرف المخصّصة لاستقبال الضيوف في المنزل، على الرغم من محدوديّة الزائرين المعروفين، أمّا اليوم، فقد بات الأهل والأبناء يتباهون في نشر خصوصيّاتهم على منصّات التواصل الاجتماعيّ على الرغم من كثافة الزائرين المجهولين. إنّ هذا السلوك الخطير يفتك بشبكة الأمان الأسريّ، على صعيد ازدياد حالات الخيانة الزوجيّة، وتراجع الحياء، وارتفاع حالات الاستغلال الجنسيّ والماديّ للزوج والزوجة والأبناء دون استثناء.

6.استسهال التواصل مع الأقارب
لقد غيّرت الهواتف الذكيّة من ثابت أساسيّ في الروابط الأسرية، وهو الصلة بين الأرحام، فالتزاور بينهم بات يستعاض عنه برسالة عبر الهاتف، كما أنّ الاتّصال الهاتفيّ قد تراجع لصالح التسجيل الصوتيّ أو الرسالة المكتوبة، حتّى خلال أشدّ الظروف حاجة للتزاور، كعيادة المريض أو المواساة بعزيز، وصولاً إلى تطوّر هذا المنحى السلبيّ من العلاقة نحو انقطاع كامل لها، مع ما يعكسه ذلك من فقدان للتضامن الاجتماعيّ عامّة، والأسريّ على وجه التحديد. ولهذا، يُخشى أنّنا على وشك أن نتّجه نحو استنساخ واقع المجتمعات الغربيّة وما تعانيه على مستوى الفرديّة المفرطة والعزلة الاجتماعيّة.

* استخلاص العِبر
وأخيراً، إنّ ما ذكرناه يُعدّ بعضاً من الأسباب التي أدّت إلى هذا الانسياق الأعمى غير الواعي في تعامل أفراد مجتمعاتنا مع هذا التطوّر الهائل في وسائل الاتّصال. وهنا، تجدر الإشارة إلى مسألة مهمّة للغاية وهي الكسل والضعف غير المبرّرين اللذين تمارسهما الجهات المعنيّة بصناعة الوعي في مجتمعاتنا في الكشف عن تجارب المجتمعات الغربيّة التي سبقتنا في استخدام هذه الوسائل، وهذه خطوة ضروريّة من أجل الإضاءة على ما أحدثته من تدمير هائل على مستوى حياتهم الأسريّة وتماسكها، بالتالي، استخلاص الدروس والعِبر التي تجنّبنا الوقوع في شِباك الهاتف الذكيّ وما يضمره لنا ولأبنائنا من سوء وشرّ.

حريّ بنا في أسبوع الأسرة أن نأخذ هذه الدعوة على محمل الجدّ حتّى نؤسّس لبناء مجتمع قادر على أن يتعامل مع الأجهزة الذكيّة بوعي، ولا سيّما الشباب منهم، في مواكبتهم للتطوّر، لكي لا تنال الحداثة ممّا تختزنه ثقافتهم من أصالة رائدة، ولنكن أذكى وأوعى في استخدام هذه الوسائل.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع