نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناسبة | مسيرُ الأربعين نحو بعلبك

تقرير: نقاء شيت
 

ها هو طيف الأربعين يحوم في المكان، نبضات الشوق تزداد، هتافات الملبّين تعلو، ونفحات الحزن تملأ الأجواء. راية هنا، عَلَم هناك، عصبة فوق الجبين، قبضة مرفوعة، وربطة خضراء، صدور تلطم، أقدام تمشي حافية، أين هذا كلّه؟ إنّه مشهد يتجسّد فوق الأراضي اللبنانيّة على خطوط المسير نحو مقام يتيمة الحسين عليه السلام، السيّدة خولة عليها السلام.

* استعدادٌ وانطلاق
واكبنا المشّاية في تلك الرحلة على دفعتين. مجموعة قادمة من بيروت نحو المقام، حدّثنا عن تجربتها بشوق اللقاء السيّد حسن فحص، تضمّه ونحو عشرين صديقاً. قبل يومين من الأربعين، حضّروا العصبات ورايات كبيرة يصل طولها إلى المترين، وبدأ المسير من دوّار الكفاءات في الضاحية الجنوبيّة نحو المقام في مدينة بعلبك. يذكر السيّد بعض المواقف الطريفة؛ فبعض الناس ظنّوا أنّهم يسيرون نحو العراق مشياً على الأقدام، وبعضهم الآخر وقف يلتقط لهم الصور والفيديوهات مستغرباً المشهد. وعندما وصلوا منطقة "الحدث"، كان عناصر شرطة البلديّة في خدمتهم، إذ واكبوهم إلى أن وصلوا إلى مشارف بعبدا. على طول الطريق قبل وصولهم إلى شتورا، كان ركّاب السيّارات يُظهرون انتباههم للمشهد، بعضهم يوقف سيّاراته ليعطيهم الماء، وآخر الخبز، وغيره. يكملون المسير ليصلوا شتورا، وهناك، تلتقي المواكب بالقادمين من البقاع الغربيّ. تصل زحلة لترى مضائف أهل البيت عليهم السلام بانتظار المشّاية، فيتسابق أصحابها إلى ضيافتهم، ويزداد المشهد جمالاً بعد اجتياز بلدة الفرزل والاقتراب أكثر من مدينة بعلبك. والأجمل في المشهد على لسان السيّد فحص، أن لا فرق بين كبيرٍ وصغيرٍ، من عمر السنة حتّى الستين وأكثر، ذكوراً وإناثاً، فالكلّ يشارك في المسير.

* "دخل إجريه"
هنا، يلتقي الزوّار بالآتين من ضواحي بعلبك والهرمل؛ فها هو الحاج أبو عبد الله حميّة آتٍ من بلدة طاريّا مع أولاده الثلاثة، وأصغرهم عبّاس ابن الأعوام السبعة، والذي بدأ المشاركة في المسيرات منذ عامه الأوّل. إنّه العام الثامن على التوالي الذي يشارك فيه الحاج حميّة وأولاده في هذا المسير بعزمٍ ومحبّة، ولا تجد في حديثه ورجفة يديه عند استذكار المشهد ما هو أكثر تأثيراً من عبارة كان يردّدها بين الجملة والأخرى: "هيدا الإمام الحسين عليه السلام، شو ما عملنا قليل، كلّها كم ساعة مشي، دخل إجريه"، وتكمل دموعه -التي حاول حبسها- التعبير عن مشاعره.

* كطريق النجف وكربلاء
مشهد الضيافة هو نفسه على طرقات البلدات والقرى، كما هو الحال على الأوتوستراد العام. يتّفق الحاج حميّة والسيّد فحص على توصيف المشهد؛ ممنوع على المشّاية أن يرفضوا الضيافة، فالأكل على محبّة الإمام الحسين عليه السلام واجب عليهم في قانون أبناء بعلبك الأوفياء لنهج الإمام الحسين عليه السلام. والموائد على مدى عينيك، تتنوّع بما تحويه من مناقيش صاج، وشطائر على أنواعها، وحلويات وشوكولا، وفاكهة وعصير وماء، وطبعاً لا ننسى الشاي الملازم لمسيرة المشّاية، فيأخذك ذلك كلّه إلى طريق المشّاية بين النجف وكربلاء. يحدّثنا الرجلان وأعينهما تسرد جزءاً آخر من الرواية، تلك اللمعة التي تتوسّط النظرات والدمعة المصاحِبة للحديث، مع بسمة الشوق إلى نفحات محرّم، كلّها تخبرنا ما تعنيه تلك المناسبة لمن يحييها، بل ويعدّ الأيّام انتظاراً لها.

* الأطفال في درب المشّاية
دعونا من حديث الموائد، ولنتّجه بأنظارنا نحو الأطفال الذين يتسابقون إلى الوصول إلى المقام، أيّ حبٍّ ذاك المزروع في قلوبهم، وأيّ عشق رسمته كربلاء؟ عبّاس يجهّز نفسه من الليل، لا ينام مخافة أن لا يستيقظ في الوقت المحدّد فتفوته رحلة المشّاية، يلبس الثياب السوداء، يعصب جبينه بعصبة، يحمل راية في يده، ويتقدّم على أبيه وإخوته مستعجلاً إياهم في المسير، هم يتعبون وهو يرفض التوقّف لأخذ بعض الراحة. وعبّاس ابن الأعوام السبعة ممنوع من القيام بجهد يُتعبه لما يعانيه من مشاكل الربو، ومع ذلك ما اهتمّ لحاله، وكرامة أهل البيت عليهم السلام أفاضت عليه من فضلهم وأعانته على مسير المسافة كاملة نحو ستّ إلى سبع ساعاتٍ متواصلة. إن كان هذا حال الصغار، فما هو حال الكبار الذين زرعوا في نفوس صغارهم حبّ الإمام الحسين عليه السلام منذ نعومة أظافرهم؟!

يصل الزوّار إلى المقام الشريف، بعضهم في ساعات الفجر الأولى ليوم الأربعين، فيرون من يفترشون الأرض نياماً مِمّن سبقهم من المشّاية، وبعضهم يصل في الصباح، يشارك في مواكب اللطم والعزاء وموائد الرحمة في المقام، بانتظار انطلاقة المسيرة إلى مرجة رأس العين بعد صلاة الظهر من يوم الأربعين.

* المقام يستقبل زوّاره
يستقبل المقام زوّاره. ويحدّثنا عن المشهد إمام مقام السيّدة خولة عليها السلام، الشيخ علي فرحات، فيقول: "إنّ المقام يتجهّز قبل أيّامٍ لاستقبال الأعداد الكبيرة الآتية للتعزية بمصاب أهل البيت عليهم السلام من مناطق مختلفة في العالم". ويضيف: "إنّ العزاء والمسير ليسا فقط في كربلاء، فالسيّدة خولة عليها السلام استشهدت أيضاً في طريق السبي، لذلك يقصدها الناس لما لها من مقامٍ عند الله، وكرامات عظيمة شهد عليها أهل المنطقة والجوار، فيأتي الزوّار طيلة أيّام السنة من مختلف البلاد لزيارتها، ويعظم مشهد الزيارة في يوم الأربعين". وعن كراماتها عليها السلام، يخبرنا الشيخ فرحات عن قصّة مشهورة يعرفها أهالي المنطقة، لطفل كان يعاني من مرض عضال، فنذرته أمّه عند السيّدة خولة عليها السلام، فشفي الطفل وعاش حتّى عمر 96 عاماً، وغيرها الكثير من الكرامات. ويذكر فضيلة الشيخ أنّ الإخوة من الطوائف المختلفة، ولا سيّما المسيحيّين منهم، يقصدون المقام لإقامة النذورات، فتتحقّق مطالبهم بفضل الله وكرامة السيّدة خولة عليها السلام.

* تجهيزات لوجيستيّة ومواكبة أمنيّة
أمّا عن التحضيرات اللوجيستيّة والأمنيّة المواكبة لطريق المشّاية والمصاحبة للزوّار؛ فيحدّثنا الحاج أحمد ريّا المسؤول الإعلاميّ في منطقة بعلبك، حيث يتمّ نشر الرايات الحسينيّة العملاقة على الأعمدة الوسطيّة على طول 70 كلم من جهة بيروت والهرمل على طول الطريق نحو المقام، مضافاً إلى اللوحات العملاقة التي تحمل الشعار السنويّ الذي يتمّ اختياره بطريقة تنسجم مع ذكرى شهادة الإمام الحسين عليه السلام والأهداف التي أرادها في ثورته تلك. كما توزّع نحو 50 ألف قطعة إعلاميّة تشمل الرايات والأعلام والشالات وغيرها، فضلاً عن رفع شاشات عملاقة تنقل كلمة الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في المناسبة. أمّا حماية الزوّار فهي من الأولويّات، حيث ترافقهم المواكبة الأمنيّة على طول خطّ المسير، مضافاً إلى التجهيزات الصحيّة من صليب أحمر، ودفاع مدنيّ، وهيئة صحيّة بكامل عتادهم، فكلّهم يتجهّزون لأيّ حالة طارئة قد تواجههم.

* فلتعزّوا يتيمة الحسين عليه السلام
ويبقى لثورة الإمام الحسين عليه السلام بريقها الذي لا يخمد على مدى الأزمان، بفضل العطاءات والتضحيات والدماء التي روت أرض كربلاء شرفاً وعزّاً إلى يومنا هذا. سيبقى ذكر الحسين عليه السلام مخلّداً في قلوبنا، ومصباح هدى وسفينة نجاة لكلّ من غرق في متاهات هذه الدنيا وطلب العبور نحو الله. كلّنا نتجهّز لإحياء "الأربعين" والمشاركة في العزاء، فلكلّ من خانته المسافات، وحرمه القدر وصال أرض كربلاء، ها هو مقام يتيمة الحسين عليه السلام يتقبّل التعازي بمصاب أبي عبد الله عليه السلام، فلا تحرموا أنفسكم أجر الدمعة على الحسين عليه السلام وأولاده وأصحابه في مقام السيّدة خولة عليها السلام، ولا تمنعوا عن أنفسكم شرف مواساتهم بمسيرة السبي، بمسيركم إليها مشياً على الأقدام.

تقبّل الله أعمالكم وعزاءكم، وجعل خطواتكم إلى مقامها الشريف، خطوات محسوبة لكم إلى جنان الخلد، بإذن الله تعالى.

أضيف في: | عدد المشاهدات: