لقاء مع الجريح المجاهد علي مهدي مهدي (غريب)
حنان الموسويّ
ما بين السماء والأرض وجدتُني، لباسيَ الأبيض الناصع كاد يضيء لنقائه، أنظر حولي وكلّ ما أراه أطفالي، أردّد أسماءهم وألهج بذكرهم. فبعد أن أوصلت المولّد الكهربائيّ لطالِبيه، وشرعت بتثبيت منظار 120ملم، رفعني ضغط انفجار صاروخٍ موجّهٍ استهدَفني بشكلٍ مباشر، وأفقدَني الشعور بالحياة، فبات الخَدَرُ يستحوِذ على جسدي، ولا سِمةَ للعيش فيه.
* عائلة مقاومة
قضيت طفولتي في قرية "حام" العاشقة للمقاومة، ودرست في مبرّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في بعلبك. أسرتنا تتكوّن من خمسةِ شبّانٍ وثلاث بنات، وأنا الابن الأوسط. والدي كان مزارعاً، أمّا إخوتي الكبار فكانوا أوّل المسارعين للالتحاق بصفوف حزب الله، ومن أوائل المؤسّسين له في القرية.
كنت أرقبهم يلتحقون الواحد تلو الآخر بالدورات، وأغبطهم على ذلك، فصرت أخضع للدورات الثقافيّة. عندما بدأت معركة القصير، قرّرت الخضوع لدورة عسكريّة في عام 2013م بعد أن تشرّفنا بشهادة ابن عمّي في تلك المعركة، ما عزّز روح الجهاد والتضحية في نفسي.
* أثرٌ جميلٌ
تعاقدت ضمن صفوف حزب الله في اختصاص الدعم، لتجهيز المجاهدين المتواجدين في السلسلة الشرقيّة، وكنت لا أتوانى عن إنجاز أيّ عملٍ يُطلب منّي في أيّ مجالٍ آخر.
أحاطت بنا المخاطر في تلك الفترة، من كمائن وتسلّل إلى المواقع، إلى زراعة الألغام والهجومات المتكرّرة. كنت أشاهد أصدقائي يرتقون شهداء مقطّعي الرؤوس، ممّا كان يشدّ من عزيمتي على مواصلة طريق الجهاد.
* إصابةٌ مباشرةٌ
التحقت بمراكز المجاهدين في جرود عرسال ضمن الأراضي اللبنانيّة، وعند التجهيز للمعركة بكلّ أنواع الدعم، أصررت على البقاء في الجرود. بدأت المعركة عند التاسعة والنصف صباحاً. في هذه الأثناء، كنت ومجموعة مجاهدين نقوم بتثبيت منظار 120 ملم لتصحيح دقّة الأهداف عند موقع "العمامة". وأثناء معالجتي لإحدى قواعده على الساتر؛ استهدفنا الدواعش بصاروخٍ موجّه أدّى إلى إصابتي بشكلٍ مباشر. كان ذلك بعد نصف ساعة من انطلاق المعركة، فتشرّفت بأن أكون الجريح الأوّل هناك، مع حزني العميق لعدم نيل شرف الشهادة الذي كنت أتمنّاه وأتوسّل في كلّ صلاة للحصول عليه.
حملني ضغط الصاروخ في الهواء أمتاراً عدّة، وكان الارتطام قويّاً ففقدت الوعي لدقائق. لم أشعر حينها بجسدي، حلّقت بين السماء والأرض دون ألم، فقدت التركيز وقد تشوّشت حاسّتا النظر والسمع لديّ، فكلّما اقترب مني أحدٌ ليسعفني رأيت في وجهه صورة ولدٍ من أولادي وناديت باسمه. كان ينبغي ألّا أغفو لخطورة وضعي، وقد بذل المسعفون جهدهم لتحقيق ذلك، حتّى وصلت سيّارة الإسعاف.
* بترٌ وصبرٌ
نُقِلتُ مباشرة إلى المستشفى الميدانيّ، فاستعجلت الطبيب ليعالجني كي أعود إلى المعركة، لكنّ طلبه أن أتحسّس جرحي أوحى لي بالخطر! مددت يدي فلمست لحماً قد فرته الشظايا، وعظماً قد تجرّد من كسوته، في حين أنّ جزءاً من قدمي قد بقي في الجبهة!
أثناء نقلي إلى مستشفى دار الحكمة، طلبت من المسعف الاتّصال بأخي، وأخبرته أنّي وقعت كي لا يكون وقع الخبر قاسياً على قلبه. وهناك، كان بانتظاري مع حشدٍ كبيرٍ من الناس والمحبّين الذين استقبلوني استقبال الأبطال.
طالت العمليّة الجراحيّة مدّة ستّ ساعات، ودام تخديري حتّى استيقظت في مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ إصابتي كانت بليغة: احترقت ساقي اليمنى وتضرّرت كثيراً، قدميَ اليسرى بقيت معلّقة بوترٍ صغير لم يحفظها من التساقط عن أمّها، بالإضافة إلى حروق في الزند الأيمن والوجه. مكثت في المستشفى قرابة شهر، وقد تخلّل تلك المدّة الكثير من الآلام، حيث خضعت لخمس عشرة عمليّة جراحيّة. كما أنّي كنت أخضع بشكلٍ دوريٍّ لعمليّات تنظيفٍ وترميمٍ لجروحي وحروقي.
علامات الدهشة كانت تعتري وجه كلّ من يراني لشدّة تفاؤلي وتقبُّلي لحالتي الجديدة، فاستُدعي مراسل في قناة المنار لإجراء مقابلةٍ معي، وأُعجِب بعدم تملمُلي من وفرة الألم، خاصّةً أنّي أنساه عند ذكر سماحة السيّد حسن النصر الله (حفظه الله) أو رؤية صورته. وإنّني رغم الجراح سأبقى ألبّي نداءه، وتحت ظلّ عباءته المباركة سأبذل روحي.
* روحٌ مرحةٌ
تخوّفُ أهلي من البتر والإعاقة كان واضحاً، وقد واجهته بمزاح ولا مبالاةٍ. بروحٍ ملؤها المرح دخلت غرفة العمليّات، مستفسراً عن طريقة البتر غير مبالٍ بذلك، وعند استيقاظي كنت كثير الفرح لتخلّصي من الألم.
غادرت المستشفى بفرحةٍ لا توصف. نسيت وجع رجليَ اليمنى وباقي الإصابات، وبدأت عندها في نمط حياة جديد محور اهتمامي فيه كيف سأربّي أولادي وهم في سنّ صغيرة. استقبلني الناس كعريسٍ بطل، ثمّ حملوني مع السرير إلى منزلي في الطابق الثالث، وقد جهّزه القيّمون في مؤسّسة الجرحى بكلّ ما يلزم للتكيّف مع إصابتي.
* جرحٌ وعمل
بعد أيّامٍ من عودتي إلى المنزل، شرع الإخوة في مؤسّسة الجرحى بمتابعة وضعي، وبدأ الطبيب المعالج بالعمل على فتح مفصل ركبتي اليمنى، وتمديد الالتصاقات الناتجة عن الحروق. سرعة استجابتي نقلَتني مباشرة إلى مركز العلاج، وبدأ وضعي الصحّيّ بالتحسّن، رغم الألم الذي كان يصاحبني خلال الجلسات، إلى أن ركّبتُ طرفاً صناعيّاً ساعدني على السير مجدّداً باستقلاليّةٍ تامّةٍ.
أشعر دائماً بالفخر عند دخولي إلى أيّ مكان، لفرط الحفاوة التي أتلقّاها من الناس.
حاليّاً، أعمل بستانيّاً متطوّعاً ضمن مؤسّسة الجرحى في البقاع، حيث أعتني بالحديقة والمزروعات، دون أن تؤثّر إصابتي على حركتي وعملي، وهذا ما انعكس بشكلٍ إيجابيٍّ على حالتي النفسيّة، وأخرجني من دوّامة الروتين والملل، وجعلني أكثر تمسّكاً به. أشارك في كلّ النشاطات التي تطلقها المؤسّسة، خاصّة مباريات كرة القدم والسباحة، وقد صرت مؤخّراً قائد فريق الجرحى الرياضيّ.
ورود الشكر تأتي يتيمة، إذ لا كلمات تؤدّي معنى الامتنان لما قدّمته مؤسّسة الجرحى بكامل كوادرها إدارة وأطباء وعاملين، ولعظيم جهودهم التي يبذلونها في سبيل راحة الجرحى وذويهم، لنعيش كغيرنا بشكلٍ طبيعيّ.
اسم الجريح: علي مهدي مهدي.
الاسم الجهاديّ: غريب.
تاريخ الولادة: 5-1-1988م.
مكان الإصابة وتاريخها: جرود عرسال، 22-7-2017م.
نوع الإصابة: بتر القدم اليسرى.