تحقيق: كوثر حيدر
"يجب أن نتذكّر في مثل هذا اليوم، أنّه ما كان للأرض أن تتحرّر، ولا للكرامة أن تشمخ، ولا للأمن والأمان أن يتحقّقا في هذا البلد لولا التضحيات الجسام التي توّجت بتحرير الجنوب في أيّار من العام 2000م؛ نتيجة الفعل الجهاديّ المقاوم، والدؤوب، والكريم بتضحياته. من هنا جاء هذا الإنجاز"(1). الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله).
مضى على هذا الإنجاز 23 عاماً، وأصبحت ذكريات ما قبل التحرير قصصاً تروى للأجيال. نستعرض في هذا التحقيق شهادات ممّن عايشوا ظلم الاحتلال وصمدوا، فأبصروا نعيم التحرير.
* في صفحات الماضي الأليم
"كِنّا عايشين بـ..."، تخنق العبرة أنفاس الحاج عقيل الخمسينيّ، ابن بلدة "دير سريان"، ويسكتُ قليلاً كي يستجمع ذاكرته. لم تستطع الأيّام محو الأسى المحفور في صفحات ماضي الرّجل؛ إذ لم يعش جنوبيّو الشريط يوماً عاديّاً واحداً في زمن الاحتلال، بل رافقهم خطر القتل والاعتقال دائماً. أمّا أملاكهم وأرزاقهم، فكانت مستباحة دون حسيب أو رقيب.
يستذكر الحاج عقيل شريط أحداث عصيّاً على النّسيان، حيث السهر كان من الممنوعات. فمع مغيب الشمس، كان أبناء القرى الحدوديّة يلوذون بمنازلهم، لا يخرجون منها خشية تعرّضهم للاعتداء والملاحقة من قِبل جنود الاحتلال والعملاء؛ لتتحوّل ساحات القرى وطرقاتها خلال الليل إلى أماكن شبه مهجورة، باستثناء العملاء وذويهم الذين كانوا يتمتّعون بحريّة التنقّل.
لا تستطيع ذاكرة الحاج عقيل محو مشاهد تعمّد الإسرائيليّين وعملائهم بثّ الرعب في نفوس الجنوبيّين، إمّا عبر انتهاك حرمات منازلهم والقيام بمداهمات تفتيش؛ بذريعة البحث عن المقاومين والسلاح، وهي في حقيقتها عمليّات سرقة وتخريب ومحاولة إذلال، وليس عمليّات تفتيش اعتياديّة، أو القيام بحملات اعتقال جماعيّة، طالت في معظمها الشبّان الذين رفضوا تجنيدهم في صفوف العملاء. وغالباً ما لجأ الشباب الجنوبيّون إلى الجبال الوعرة والأودية المتعرّجة؛ للهرب من قرى الشريط والانتقال إلى المناطق المحرّرة، لكنّ عدداً كبيراً من محاولاتهم باء بالفشل، فزُجّ بهم في معتقل الخيام.
* صمت ثمنه التعذيب
تحرّرت من الأسر، ولكنّ شبح ذكرياته لم يفارقها قطّ. "نهلة كريم"، الأسيرة المحرّرة من معتقل الخيام، التي اُعتقلت لأكثر من شهر في زنزانة انفراديّة، في ظلّ ضغطٍ نفسيٍّ وجسديٍّ مورِسا عليها من أجل الاعتراف بمساعدتها للمجاهدين إبّان فترة الثّمانينيّات. وبالرغم من كلّ ما تعرّضت له من أشكال التّعذيب المختلفة، لم تنطق نهلة بأيّ كلمة، ولم يتمكّن العدوّ من الحصول على أيّ دليل ضدّها أو إلصاق أيّ تهمة بحقّها، فأطلق سراحها؛ لتنتقل من بعدها إلى بيروت هرباً من ملاحقات عملاء جيش لحد.
* معاناة عائلة كاملة
في القرية نفسها، "دير سريان"، أولى المناطق المحرّرة، عادت الحاجة "هنيّة كريم" مع أولادها الصّغار إلى الدّيار سنة 1982م، بعدما هُجّروا منها عام 1978م إلى بيروت، ولكنّ زوجها الحاج محمّد كريم بقي حينها في البلدة لمساعدة الشبّان. كانت التّنقلات في تلك الآونة شديدة الصّعوبة؛ نظراً للانتشار الكثيف لعملاء جيش لحد، وسَوق الشّباب إلى التّحقيق؛ ليبدأ من بعدها مسلسل التعذيب المعروف. في تلك الفترة، قرّر الحاج محمّد زيارة زوجته وبناته خصوصاً بعد الاقتحامات المتكرّرة للمنزل؛ لاستجواب العائلة حول طبيعة عمل الرّجال. كان الطّريق إلى أسرته وعِراً وصعباً، ومليئاً بالذّئاب والمتربّصين، فتمّ اعتقاله، وسيق إلى مركز الاعتقال في منطقة الطّيبة، حيث بقي معزولاً لأيّام عدّة، تعرّض خلالها للتّعنيف والتعذيب بأمر من أحد العملاء المعروفين آنذاك.
يستذكر أبناء الحاج كريم تلك الأحداث المكلّلة بالألم، يضحكون تارةً، وتنهمر دموعهم تارةً أخرى. تحكي عيونهم قصصاً لا تُروى بالكلمات؛ لتقف فجأةً عند محطّات قديمة عصيّة على النّسيان، لكنّها مرّت.
* هروب من أذى العملاء
يصعب أن تجد شخصاً عاش في القرى المحتلّة، دون أن تكون له أو لمعارفه قصّة مؤلمة مع العدوّ. في جعبة أمّ عليّ حمّود، وهي ممّن بقوا في الشريط أثناء الاحتلال، الكثير من الحكايات الموجعة. تشير إلى منزل جيرانها، وتروي قصّتهم، عندما تقدّم أحد أبرز عملاء المنطقة للزواج من ابنتهم الشابّة، التي كانت حينها لا تزال تتابع تحصيلها العلميّ، ولكنّ أهلها رفضوا طلبه رفضاً قاطعاً، فما كان منه إلّا أن بدأ ومجموعته بمسلسل الابتزاز والضغوط تُجاههم، وصولاً إلى ضرب والد الفتاة واعتقاله أسابيع عديدة. عندها، قرّرت الأسرة ترك كلّ شيء وراءها، والنزوح نحو بيروت. تذكر أمّ علي عن لؤم العملاء والعدو بلكنتها الجنوبيّة: "اللي ما بخفش من الله، خاف منه".
* حريّة مكبّلة بالذكريات
بدورها، تروي الأسيرة المحرّرة "سكنة بزي"، من بنت جبيل، عن أحداث أربع سنوات من التعذيب والعيش في ظروف قاسية وما خلّفته من آثار سلبيّة عليها، فتقول: "منذ عشر سنوات بدأت أُعاني من التهابات في المفاصل، وأمراض عصبيّة، وآلام في المعدة، وحساسيّة الأكزيما". وهذا هو حال غيرها من الأسيرات؛ فبعضهنّ خرجن من الأسر وهنّ يعانين من العقم، أو من الإعاقة، أو من أمراض جسديّة ونفسيّة مختلفة. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ منهنّ من فارقت الحياة تحت تأثير التعذيب!
إنّها حريّة مكبّلة بالذكريات؛ فلا تنسى سكنة أيّام الأسر عندما كانت تبلغ 17 عاماً، وتمرّدها على السجّان مع شابّات شاركنها العيش في الزنزانة: "مريم نصّار، مريم جابر، فريدة أرسلان، كفاح عفيفي، وسهى بشارة"، تذكر أسماءهنّ، ثمّ تضحك وهي تستذكر ردّها على تهديدات العملاء: "اعتدنا طعم الكهرباء، وارتحنا كثيراً في الانفراديّ، ممَّ سنخاف بعد؟!"
* أكثر الذكريات إيلاماً
تحمل ذاكرة "رياض كلاكش" في جعبتها معاناة 14 عاماً و4 أشهر و20 يوماً من الأسر. وأكثر الذكريات التي تؤلمه لحظة لقائه صدفة بشقيقه عادل بعد أربع سنوات على أسر الأخير، فلم يتعرّف أحدهما على الآخر؛ لأنّ مرارة الأسر بدّلت ملامحهما، فضلاً عن أنّ الصهاينة لم يسمحوا بلقاء الأخوين خلال فترة الاعتقال برمّتها. يقول رياض إنّها من أكثر المشاهد إيلاماً في ذاكرته المحفورة بالأسى!
* وعاد الحقّ إلى أصحابه
أبى القيد إلّا أن ينكسر، فاندحر الصهاينة وعملاؤهم مذلولين عن أرض الطهر؛ لتشرق شمس الحريّة والنصر على وقع تكبيرات وزغاريد أهل الدار، وهم يعودون إلى بلداتهم وقراهم بشموخ وإباء؛ ليعلن التاريخ عن انتهاء حقبة سوداويّة، وبدء مرحلة جديدة زرع فيها كلّ مقاوم وشريف نصباً تذكاريّاً في كلّ القرى المحتلّة سابقاً، يحمل تاريخ استقلال حقيقيّ معمّد بالدم، في 25 أيّار 2000م.
* الجنوب يعجّ بأهله
مضى 23 عاماً على آخر أيّام الهزائم، ولا يزال أبناء الجنوب القاطنين في بيروت ينتظرون بشغف نهاية الأسبوع لزيارة قراهم، حتّى بات هذا الأمر برنامجهم الأسبوعيّ المقدّس. إنّها تلك القرى والبلدات دون غيرها، المزدانة بصور ثلّة من وجوه شبّان، صنعوا قصصاً من أعظم بطولات العصر الحديث، وقدّموا أرواحهم فداءً للأرض والعرض؛ خرجوا يقاتلون باللّحم الحيّ والعِتاد البسيط، أعتى جيوش المنطقة غطرسةً وإرهاباً؛ ليعود الأمن والأمان إلى ربوع تلك البلدات، ولتعجّ من جديد أزقّتها وشوارعها وساحاتها بابتسامات أهاليها وأحاديثهم وحكاياهم!
(1) من كلمة لسماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في مهرجان عيد المقاومة والتحرير 25-5-2016م.