نهى عبد الله
وأخيراً! أقلعت طائرة البوينغ ليلاً، بعد تأخّر كبير جرّاء التأمين الذي فرضته شركة الطيران قبل الإقلاع؛ لأنّ الرحلة استثنائيّةٌ وخطرة. كان معظم الـ200 مسافرٍ من الصحفيّين، وكانوا يعلمون بالتهديدات الجديّة بإسقاط الطائرة، أو منع هبوطها؛ ما استغرق وقتاً إضافيّاً آخر؛ لملء خزّان الوقود بما يكفي للعودة.
في الصفّ الأوّل، جلس سيّدٌ سبعينيّ مُعمّمٌ، تحلّق حوله أربعون رجلاً، جُلّهم من العلماء. كان قليل الكلام، يحمل سكون بحر عائم، كفيلٍ بأن يُسكّن نفَس كلّ من ينظر إليه.
خمسُ ساعاتٍ ونصف عاشها الركّاب في قلق وتوتّر، بلغا أوجهما عندما أعلن أحد المسؤولين أنّ "آية الله" جمع المقرّبين قبل الرحلة وقال لهم: "هذه الرحلة محفوفةٌ بالمخاطر؛ قد يتمّ اغتيالي، أو أسري، أو وضعي في الإقامة الجبريّة. أنا قرّرتُ مواجهة هذه التحدّيات، لكنّني أتفهّم تماماً الذين سيختارون عدم الذهاب". وبوجه شاحب سأل صحفيّ: "أنتم مُبعدون منذ سنوات، لمَ لم تصطحبوا نساءكم وأطفالكم؟". أجابه المسؤول دون أن يرفّ له جفن: "هذه الطائرة في خطر أكبر ممّا تتصوّرون، قد يسقطونها جوّاً". وسط تلك الدهشة، صعد السيّد السبعينيّ إلى الطابق العلويّ من الطائرة، واستلقى على أريكة، وغفا بهدوءٍ أربك الآخرين. عندما استيقظ "آية الله" طلب من المضيفة كوب ماء، وقال لها: "أكون شاكراً لو تَدُلّيني على اتّجاه مكّة"، وبعد دقائق، كان يؤدّي صلاة اللّيل.
مع ساعات الفجر الأولى، ظهرت الجبال الإيرانيّة مغطّاةً بالثلوج، سأله صحفيّ: "ألست قلقاً لتغفو بهدوء وتصلّي؟". وبطمأنينة فريدة أجابه: "وممَّ أخشى؟!". سرى هدوء كلماته إلى قلوب الجميع؛ ليشعروا بسكينته، فيما أخذ ينظر إلى الجبال البيضاء؛ ليظهر طيف ابتسامة على محيّاه لأوّل مرّة.
عاد الخميني قدس سره بعد 15 عاماً من المنفى.