لقاءٌ مع الجريح المجاهد محمود عبّاس حجازي (عبد الجبّار)
حنان الموسويّ
جموع التكفيريّين انحسرت في المربّع الأخير لمدينة الزبداني، فانصبّ سمّ كيدهم في أحجاره، واحترفوا زرع العبوات الناسفة وأخفوها بين الركام والأوساخ في كلّ مكان.
كنت عنصر تأمين مع شبّان الهندسة. دخلنا المنزل المفخّخ بحذر. فكّكنا عبواتٍ ثلاثة في أماكن مختلفة من البيت. صعدت السلالم بهدوء وقلبي يحدّثني بالخطر. عدت أدراجي نزولاً وبُغيَتي إخلاء البناء بعد تطهيره. ومع خطوتي الأولى، حملني ضغط انفجار العبوة المموّهة في الهواء، وصرت فجأةً وحدي وقد غشت الظلمةُ عينيّ.
•يتم في الطفولة
سنيّ عمري السبعة اكتملت دون والدي، فقد توفاه الله تعالى بعد معاناة دامت سنوات. صورة غيابه عن المنزل ليجاهد في سبيل الله ما زالت راسخة في ذهني، وأنا الطفل الذي ما اكتفت أيّامه من وجه أبيه، لكنّ والدتي تكفّلت بنا، فكانت نِعم الأم والأب في آن.
•بداية الجهاد
تعاقدت بشكلٍ منتظم عام 2010م، وبدأت خدمتي الفعليّة في بعلبك. وفي عام 2013م، شاركت في فكّ الحصار عن مقام السيّدة زينب عليها السلام مع الشهيد "الحاج أبو تراب الرويس"، وكذلك في فكّ حصار الغوطة والقلمون، وقارة، والبريج، وصولاً إلى معركة الزبداني، حيث كانت إصابتي.
•لا عينان ولا قدمان
بدأ الهجوم يوم الثلاثاء في 15/9/2015م عند الساعة السادسة صباحاً. قمنا بتطهير أماكن عدّة. وعلى مشارف المنزل الأخير الذي قصدناه، دخلت بصفتي عنصر تأمينٍ، وتبعني باقي المجاهدين. فكّك شبّان الهندسة مجموعة عبوات حتّى تتمكّن القوّات من الدخول، وكان عليّ استكشاف المنزل بكلّ طبقاته. صعدت السلالم دون ملاحظة العبوة المخفيّة والمزروعة أسفلها، وعند نزولي انفجرت. فقدت الوعي لبعض الوقت. وصل إليّ المسعف سريعاً، أيقظني فبدأت أتحسّس نفسي؛ لا عينان أرى بهما، ولا قدمان أسير بهما، فالأولى بُتِرت والثانية التوَت إلى الخلف مع نزفٍ لم يتوقّف، وقد اختفى سمعي تدريجيًاً؛ لأنّ النسيج الطبليّ لأذنيّ تمزّق جرّاء الانفجار، ولم أستطع رفع صوتي لأنّ التكفيريّين كانوا في المنزل المجاور. ناديت رضا بصوتٍ ضعيف: "أنا لا أرى يا صديقي!"، فأجابني: "لقد حلّ الليل، ومن الطبيعيّ أن لا نرى". وافقته دون اقتناع. لاحظت أنّ ملمس وجهي اختلف، وعظامه قد تكسّرت، وأوجاع الجروح تؤذِن بأنّ الإصابة بليغة. ضيق نفسي دفعني للطلب من المسعف الكشف عن صدري. قام بالإسعافات الأوليّة، وعاين جسدي بالكامل، فوجد صدري غير مخدوش، فاطمأننت. وأثناء نقله إيّاي، أصابته طلقة قنّاص رفعته شهيداً على الفور! بعد ذلك، أقبلت مجموعة أخرى لسحبي، فلفّوا جسدي بغطاءٍ وانطلقوا وأقدامُهم تسابقُ طلقاتِ القنّاصين. وُضِعتُ أرضاً لبعض الوقت حتّى هدأ الوضع، ثمّ نُقِلت بعدها إلى آليّة الـPMB.
•نشوة النصر
وصلتُ إلى المستشفى الميدانيّ فاقداً الوعي، حيث تمّ تضميد جراحي، وبعدها إلى مستشفى في جديدة يابوس، ومنها إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، حيث مكثت ثمانية وعشرين يوماً. خضعت لثماني عمليّات جراحيّة خلال الأيّام الأولى وقبل استعادة وعيي، بينها بتر قدمي، وزراعة عظام في وجهي، وتنظيف عينيّ لردّهما إلى مكانهما. جرحي المفتوح رافقني طيلة مدّة رقودي في المستشفى، بسبب جرثومة سمّمت دمي. الآلام التي تفوق مستوى الكلام أو الوصف، كانت تهون كلّها في سبيل الله وفي عينه الكريمة. ركّبت طرفاً صناعيّاً والتحقت مجدّداً بالجبهة، حيث شهدت تحرير الزبداني، وعشت نشوة النصر بفكّ الحصار عن كفريا والفوعا.
•ألوان الصبر
من غير المستهجن حجم الصبر في قلب أمّي، فحين أخبرها أخي بإصابتي، اكتفت بالدموع، وبعدها انطلقت لزيارة المراقد المقدّسة في العراق؛ لتواسي أهل بيت النبوّة عليهم السلام بدمي المسفوك وبجراحي، فنالت جرعات عزم ادّخرتها لتقوى على الثبات وتحمّل البلاء. طلبت شفائي عند قمر بني هاشم عليه السلام، وبالأخصّ شفاء عينيّ، وقد استعدت وعيي مع عودتها، والبشرى كانت عودة النور إلى عينيّ.
سنوات خمسة مرّت لا تخلو من الألم، بتّ أطلب من الله يوماً واحداً من دون أوجاع، لكن ببركة الليالي الفاطميّة ومظلوميّة السيّدة فاطمة عليها السلام، زال كلّ ما أحسست به من آلام.
•تعلّقٌ ومواساة
عقدت قراني على ابنة عمّي بعد إصابتي مباشرةً، وتزوّجت بعدها بسنة في ذكرى ولادة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رزقني الله بثلاثة أطفال ازدانت بهم حياتي وتألّقت.
بعد الإصابة، تعلّقت بالإمام زين العابدين عليه السلام، عليل كربلاء والشاهد الأكثر تألّماً على أحداث يوم عاشوراء، وقد أسميت ولدي "علي السجّاد" تيمّناً به عليه السلام. وللسيّدة الزهراء عليها السلام مكانة في نفسي لا يضاهيها أحدٌ، ولشدّة عشقي لها أسميت ابنتي الأولى ريحانة الزهراء، والثانيّة زهراء، وسأُسمّي ابنتي الثالثة، إن رزقنيها الله، فاطمة، فإنّ لهذا الاسم قدسيّةً عجيبةً في قلبي.
•أريج القلب
جعلتني إصابتي أكثر تمسّكاً بهذا الخطّ الذي يحتاج إلى الكثير من التضحيات لنحقّق الانتصار. ونحن بوصفنا مجاهدي مقاومةٍ خيرةُ رجالها هم الشهداء، نعدّ من الموجّهين والداعمين الأساسيّين لهذه المسيرة، والمحافظين على هذا الخطّ الذي يمتدّ إلى ظهور القائم الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، والدفاع عنه.
للسّيد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: كروح العطر في ثغر الأيّام أنتم، حلمٌ يا سيّدي رؤياكم، واعتمادي الكلّيّ في ذلك على الله وحده. إنّي بانتظار أمركم لأكون في خدمتكم، ومدافعاً عن دين أجدادكم دائماً وأبداً.
رسالتي لإخواني الجرحى: حافظوا على قداسة هذه الجراح التي منّ الله بها علينا، فإنّها حجّة على الناس ليعلموا أنّنا ضحّينا بأجسادنا، وصبرنا على ألم الجراح ليحيوا هم بسلام وأمان، ودفاعاً عن دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم. كونوا -يا إخوتي- العون والسند، واخدموا من حولكم ما استطعتم، فأُمنيتي منذ الصغر تأسيس جمعيّة تقوم على مساعدة الناس وقضاء حوائجهم، وقد شاء الله أن أحقّق جزءاً من تلك الأمنية بمساعدة بعضكم، فتقبّل الله أعمالكم.
الاسم الجهاديّ: عبد الجبّار.
تاريخ الولادة: 15/1/1993م.
مكان الإصابة وتاريخها: الزبداني 15/9/2015م.
نوع الإصابة: بتر القدم اليمنى، وإصابة في القدم اليسرى، وشظايا في الوجه.