آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
إنّ سعادة البشر لا تتحقّق إلّا في ظلّ هداية العقل النظريّ وإرشاد العقل العمليّ. وما لم يصل هذان العاملان إلى كمالهما اللائق، فلن تثمر شجرة الإنسانيّة المباركة ثمرها المطلوب. ولذا، يُلاحظ أنّ الهدف النهائيّ من إنزال الكتب وإرسال الرسل، هو ضمان سعادة البشر في مختلف شؤون حياتهم. والهدف النهائيّ من تشريع الأديان الإلهيّة، لا يقتصر على إنزال الوحي وإتمام الحجّة على العباد فحسب، بل ﴿ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ﴾ (الأنفال: 42). هذا من بين الأهداف السامية أيضاً للدين.
•الشجرة الإنسانيّة
إنّ إيجاد مجتمع متحضّرٍ هو من الغايات العليا للدين، تنمو في ظلّه الشجرة الإنسانيّة؛ لتثمر العلم والتعقّل إلى جانب العدالة الشاملة لكلّ مجالات الحياة، حتّى توصل البشر إلى سعادتهم القصوى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصف: 9).
ولا ينبغي إغفال أنّ طلوع الشجرة الطيّبة للحياة البشريّة، لم يزل ولا يزال يهدّد الطواغيت ويتوعّد مصالحهم المستندة إلى الجور والجهل، فلذا كانوا وما زالوا ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ (الصف: 8).
إلّا أنّ شجرة السعادة الإنسانيّة ستؤتي أُكلها بعد قلع شجرة الجهل والجور الخبيثة، ويتنجّز ذلك الوعد الإلهيّ الحتميّ، وتتحقّق إرادة الله القاهرة في إطار حكومة نشر العلم وطمس الجهل، ويستظلّ العالم بظلّ دين التوحيد في جميع شؤون حياة البشر، ويكون آخر الحجج الإلهيّة هو من يقطف ثمار العلم والعدل والقسط، من أغصان شجرة الحياة المتشابكة.
وإثر ظهور شمس الحاكميّة المهدويّة، ينعتق العقل من أسر الهوى، وببركة وجوده المبارك عجل الله تعالى فرجه الشريف، تُثار دفائن العقول؛ لترتوي عندها القلوب العطشى من ماء الوحي. كما تتبدّل رذيلة الخسّة والدناءة في ظلّ هداية المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف القائم بالحقّ بملكة الفضل والغنى، وتتحوّل القلوب آنذاك على يديه المباركتين وعاءً صالحاً؛ لتمتلئ أملاً ونشاطاً وإيماناً، وتتقبّل الفكر الصافي، وتتحرّك الدوافع الحيويّة النبويّة العلويّة في إطار التأديب الإلهيّ وتعاليم الوحي، فتبنى مدينة المبادئ الإنسانيّة.
•مدينة المبادئ البشريّة
إنّ الأُمّة التي تحيا في ظلّ دين واحد، وتحت إمامة آخر حجّة إلهيّة، لهي قادرةٌ على تأسيس مدينة المبادئ البشريّة، التي تنمو لتصل إلى قمّة العلم بدرجاته السبعة والعشرين. فأرقى ما يمكن أن تصل إليه البشريّة قبل الظهور، مع تقدّمها العلميّ والتقنيّ والاعتماد على مسار الوحي وأدوات التجربة، لا يتجاوز الدرجتين منه فحسب. عن مولانا أبي عبد الله عليه السلام قال: "العلم سبعة وعشرون جزءاً. فجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير [الجزئين] الجزءين. فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءاً، فبثّها في الناس، وضمّ إليه [الجزئين] الجزءين، حتّى يبثّهما سبعةً وعشرين جزءاً"(1).
•أربعون رجلاً
كما سيرفع الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف كلّ ضعف ونقص وذلّ عن شيعته؛ لتصبح قلوبهم كزبر الحديد، فيكون الرجل في قوّة أربعين رجلاً. عن مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام قال: "إذا قام قائمنا أذهب الله عزّ وجلّ عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوّة الرجل منهم قوّة أربعين رجلاً، ويكونون حكّام الأرض وسنامها"(2). وروي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: "فإذا وقع أمرنا وجاء مهديّنا عليه السلام، كان الرجل من شيعتنا أجرى من ليثٍ، وأمضى من سنانٍ"(3).
هذا ما سيكون عليه الحال في الدولة المهدويّة، سائلين الله عزّ وجلّ أن نكون من أنصار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأعوانه، والمستشهدين بين يديه.
(*) من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف – الباب الثالث: من الظهور إلى المدينة الفاضلة – الفصل الثاني – بتصرّف.
1. الخرائج والجرائح، الراوندي، ج 2، ص 841.
2. الخصال، الصدوق، ص 541.
3. بصائر الدرجات، الصفار، ص 44.