الشيخ إسماعيل حريري(*)
من عادة الشعوب، قديماً وحديثاً، أن تولي بعض الأشخاص والأزمنة اهتماماً خاصّاً، لما يمثّلون من قيمة معنويّة كبيرة بالنسبة إليها. فضلاً عن أماكن معيّنة تصبح مقدّسةً في منظورها. فما هي خصوصيّة تلك الأماكن؟ وكيف يجب التعاطي معها؟
•لماذا أصبحت أماكن مقدّسة؟
الأماكن المقدّسة هي مواضع من الأرض، حازت طهارةً ونقاءً لسبب من الأسباب المعتبرة عند مريديها؛ فهي الأماكن المطهّرة بالطهارة المعنويّة.
ثمّة في الإسلام أماكنٌ مقدّسةٌ عدّة، إمّا لخصوصيّة جعلها الله تعالى في نفسها، كالمساجد عموماً والمسجد الحرام والمسجد النبويّ خصوصاً، وإمّا لتضمّنها أجساداً طاهرة لأنبياء وأئمّة عليهم السلام وأولياء صالحين، ممّا أعطاها قداسة وطهراً ورفعة؛ ككربلاء المقدّسة، التي تحتضن الأجساد الطاهرة لشهداء كربلاء، وخصوصاً جسد الإمام المعصوم الحسين عليه السلام، والنجف الأشرف المحتضن لجسد أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب عليه السلام . وهكذا أيضاً بالنسبة إلى مشاهد المعصومين عليهم السلام، المنتشرة في أكثر من موضع وبقعة. وهذه الأماكن كلّها تباركت وتقدّست بتضمّنها تلك الأجساد الطاهرة.
•تعظيمها من تقوى القلوب
تُعدّ الشعائر علامةً على دين الله تعالى فلها هذا البُعد الإعلاميّ؛ بحيث يُعرف بها دين الله ومن يدين به من خلال إقامتها.
وبهذا المعنى، تكون الأماكن المقدّسة من أبرز مصاديق الشعائر؛ لكونها أعلاماً للدين وكونها دالّة عليه، ولها مكانة كبيرة وعظيمة عند أتباعه. وقد جعل الله تعالى تعظيم شعائره من تقوى القلوب، فالتعظيم من التقوى، والمتّقي هو الذي يُعظّم شعائر الله.
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج: 32).
والمراد من التعظيم هو الاهتمام برفع هذه الشعائر، وإعلاء شأنها، والمبالغة في احترامها، ومراعاتها بكلّ ما يتناسب مع تقديسها وتطهيرها، والابتعاد عن كلّ ما يتنافى مع ذلك.
•مظاهر تعظيم المقدّسات
للمشاهد المشرّفة والمقامات المقدّسة، كأضرحة المعصومين عليهم السلام ومقامات الأولياء والصالحين من أبناء الأئمّة والشهداء، ميزة خاصّة؛ لذلك يجب الاهتمام بها، وتقديسها، وتعظيمها؛ لحفظها من الزوال والاضمحلال، ولما تمثّله كونها شعاراً للإيمان والإسلام. وتعظيمها بحقّ يتحقّق عبر مستويات عدّة من الاهتمام والاحترام:
الأوّل: الاهتمام بمظهرها وبنائها عبر تشييدها، وإعمارها، وتوسعتها بما يضمن استمرارها منارات للهداية وأعلاماً للدين والإيمان. وإن كانت مسجداً، بالالتزام بآدابه، وتجنّب كلّ ما يهتك أضرحة الأنبياء والأولياء.
وما يُطلقه المشكّكون من وقت إلى آخر فيما يبذله المؤمنون من مال في سبيل بناء تلك المقامات المقدّسة، وتوسعتها وتزيينها وزخرفتها، لا يعدو كونه تشكيكاً في بديهيّات الشريعة، التي ترى في ذلك تعظيماً لتلك المقامات وحفظاً واحتراماً لها. وهذا لا يتنافى أبداً مع بذل المال في جهات أخرى أيضاً؛ من قبيل إعانة المحتاجين والفقراء وسدّ حاجاتهم، والواقع يدحض كلّ هذه التشكيكات.
الثاني: الصلة والزيارة: يكون الوفود إليها من كلّ حدب وصوب، لزيارة أصحابها الراقدين فيها، إحرازاً للثواب وتأكيداً على الحبّ والارتباط بهم وبما يمثّلونه من نهج إسلاميّ أصيل، خصوصاً في مناسبات معيّنة ورد التأكيد على استحباب الزيارة في روايات الأئمة الأطهار عليهم السلام، كزيارة سيّد الشهداء عليه السلام في الأربعين، وزيارة عرفة، وزيارة النصف من شعبان؛ لما لهذه الزيارات من أثر دنيويّ وأخرويّ على الزائر. فعن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: "يا معاوية، لا تدع زيارة الحسين عليه السلام لخوف، فإنّ من تركه رأى من الحسرة ما يتمنّى أنّ قبره كان عنده، أما تحبّ أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ وفاطمة والأئمّة عليهم السلام؟ أما تحبّ أن تكون ممّن ينقلب بالمغفرة لما مضى ويغفر لك ذنوب سبعين سنة؟ أما تحبّ أن تكون ممّن يخرج من الدنيا وليس عليه ذنب تتّبع به؟ أما تحبّ أن تكون غداً ممّن يصافحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟"(1).
الثالث: الدفاع عنها وحفظ حرمتها: التعظيم الأهمّ، يكون بالدفاع عنها من هجمات الحاقدين والمبغضين، وتقديم الأنفس في هذا السبيل؛ لأنّ هذه المنارات تحكي بنفسها تاريخاً ناصعاً وعزيزاً من تاريخ الإسلام الأصيل، وفي محوها محوٌ لهذا التاريخ، أو لكثير ممّا يرتبط بهذه المقامات الشريفة والأماكن المعظّمة، وبأصحابها أيضاً. ولا يخفى أنّ قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (النور: 36) يشمل هذه المقامات الشريفة أيضاً. وثمّة مستوى رابع وهو إبراز قداستها.
•إبراز القداسة تكليف
إنّ إبراز قداسة هذه الأماكن هو تكليف كلّ مؤمن ومؤمنة؛ لكي يعلم الناس ما لها من مكانة عند الله تعالى وفي النفوس، وللتأكيد على أنّ تعظيمها واحترامها هو من تعظيم شعائر الله تعالى، الذي جعله الله من تقوى القلوب.
أمّا كيفيّة تحقيق ذلك، فهو في نشر فضائل تلك الأماكن ومآثرها، وبيان أهميّتها ومكانتها بالقول والفعل؛ لحثّ الناس على التمسّك بها، وترسيخ الارتباط الروحيّ والنفسيّ بها وبأصحابها وبتاريخهم وبتأثيرهم، وبقيمهم، وبعلومهم... وإبراز أهميّة هذا الارتباط وانعكاسه على حياة الفرد الروحيّة؛ فإنّ من يرتبط بكائن مقدّس له مكانة رفيعة عند الله تعالى، يشعر بالاطمئنان النفسيّ والراحة القلبيّة؛ لأنّه وسيلته إليه تعالى، تنفيذاً لقوله: ﴿وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35). وتتوطّد هذه العلاقة بالحضور في مقامه المقدّس حيث الملائكة حافّون به؛ يسبّحون الله تعالى، ويستغفرون لزوّاره.
ومن أهمّ انعكاسات هذا الارتباط المقدّس على حياة الناس أفراداً ومجتمعات، هو اتّخاذ صاحب هذا الضريح قدوةً وأسوةً لهم في حياتهم؛ فيستلهمون من تفاصيل حياته (أقواله، وأفعاله، وسلوكيّاته، وردّات فعله، وتعامله مع القريب والبعيد) برنامج عمل لهم في حياتهم لا يحيدون عنه؛ لأنّهم يرَون فيه الحقّ كلّه، ورضى الله المطلق.
فالمضحّي، والمؤثر، والمجاهد، والكريم، والعاف عن الناس، والباذل نفسه في سبيل الله، والمتصدّق، والمُعرض عن لهو الحياة الدنيا، والمتخلّق بالخُلق الحسن، كلّ هؤلاء إنّما يقتدون بهؤلاء الأطهار عن كامل رضى وتسليم. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21). وما ارتبطت أيّ بقعة أرضٍ بهم، إلّا استمدّت منهم قدسيّةً لتكون باباً يربط حاضرنا بتاريخهم، فلنتّصل بهم.
اللهمّ اجعلنا ممّن يعظّمون شعائرك ولا يبخلون في هذا السبيل طلباً لرضاك وإعلاء لكلمتك.
(*) أستاذ في جامعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العالميّة في لبنان.
1.كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 230.