لقاء مع الجريح المجاهد حسين حسن الموسوي (عماد)
حنان الموسويّ
هي "رنكوس"، ثالث قريةٍ عاث فيها الجَحدة خراباً، بعدما حُرّرت "قارة" و"رأس العين"، فوَجَب تطهير تراب القرية من التكفيريّين. بذا أخبرني صديقي حين هاتفني، وطلب منّي الالتحاق بالمجاهدين. وكالبراق وصلنا. طافت مقادير المعنى بنا، حين سمعنا التكبير من أفواه أحفاد رافعي المصاحف المتجذّرين حقداً. وقفنا بباب الله ووحي الهيام يسبقنا: "يا ربّ، إنّ بيتك جرحٌ فيه صلّى، والحاقدون يريدون سبي أهله من جديد، فسدِّدنا".
كان الظمأ قد أيبس شفاهي، وفكري غادرني نحو الإمام الحسين عليه السلام. عادةً ما تعبرُ زفرةُ المشتاق جهراً، فأحسّها الرفاق واشتدّ العزم. دار الاشتباك، أمتارٌ خمسة تفصل بيننا وبين الدواعش. ازدهى في مقلنا النزال، ورمينا عرايا النفاق بحزم. كلٌّ تقدّم بدوره ليحصد العزّ المحنّى؛ نقترب منهم ونبتعد عن الجرف الصخريّ شديد الانحدار وراءنا، كانوا يفرّون رغم كثرة عددهم وعتادهم، إلّا أنّ خبيثاً أطلّ من خندقٍ قريبٍ، وأطلق النار عليّ بشكلٍ مباشرٍ، فهويت عن الجرف مودّعاً.
* طفولةٌ واعية
بزغ وعيي باكراً، تفتّحت عيناي على الجهاد، وعرفتُ معناه حين افتقدت أبي مراراً، وما كنت لأجده سوى في المحاور؛ فهو مجاهدٌ من الرعيل الأوّل، المؤسّسين القدامى للمقاومة، فنشأت وطيف الرافض للظلم يحتويني. انضممتُ إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف تأسّياً بأخي الذي كان قائداً يُحتذى به. هويتُ الرماية صغيراً، فتعبّأ في بنياني حبُّ القتال.
خضعتُ لدورة خاصّة بأبناء المتفرّغين، في المقاومة وأنا ابن الخامسة عشر في العام 2007م. وفي العام 2008م، التحقتُ بوحدة الرضوان، وخضعت لدورات عسكريّة عدّة. بدأتُ خدمتي الجهاديّة في مناطق عديدة في الجنوب والبقاع. وحين خيّم الخطر على المقدّسات، رمت احتواءات الأقدار بنا إلى ضرورة الدفاع عن حرمة المقامات. عيون الوصف تبقى قاصرةً عن رسم المشهد: إجرامٌ، وإرهابٌ، وسفك دماء، وانتهاك حرمات. كنت ضمن سريّة الشهيد "ساجد الطيري"، أولى المجموعات التي دخلت العمق السوريّ لحماية المزارات والناس عام 2012م، تمركزنا في "جديدة يابوس"، بعد فترة، تحوّل عملي إلى محيط مقام السيّدة زينب عليها السلام، ثمّ انتقلتُ إلى المحاور، وعدتُ آمر فريقٍ في منطقة الغوطة عام 2013م.
* إحساسٌ غريب
بعد مشاركتي في معارك "يبرود" و"رأس العين"، عانيتُ من ألمٍ في ركبتي، وتقرّر إجراء جراحةٍ للغضروف الممزّق، لكنّ محادثةً واستخارةً غيّرتا حياتي بأكملها؛ حين أخبرني صديقي أنّ الحاج ساجد يطلب أربعين شابّاً أسداً؛ ليحرّروا ما بدأ به والمجاهدون، "رنكوس" بعد "قارة" و"رأس العين". وضّبتُ أغراضي، وقد تملّكني إحساسٌ أنّ هذه المرّة مختلفة. تلك الاستخارة الممتازة أثارت لواعجي، وحده الله يعلم ما شعرتُ به. أخبرتُ صديقي أنّني شهيد أو جريح، بعد أن طلبتُ منه الانضمام إليّ لنسهر، فالتقينا في منطقة "قارة" في القلمون.
* طلقة نحو جمجمتي
بدأنا الهجوم عند الساعة السادسة عصراً من محاور عدّة. ثبّتنا نقاطنا، بعد أن طُلب منّي صعود التلّة لتطهيرها، وبرفقتي ثلاثون شابّاً. صرنا نَحبُك الأرواح غزلاً من ضياء، كلّما أمطرنا التكفيريّون بالنيران والإطارات المفخّخة. ضراوة الاشتباك أنذرت التكفيريّين أنّنا عازمون على النصر؛ فصاروا يتراجعون بخطى يومٍ منهزم كابر ليعبر ضفّة أحزانه، إلى أن أُصبتُ بطلقةٍ في رأسي، أوقعتني عن الجرف وقلبتني في الهواء لمرّاتٍ أربع، فكان الارتطام عظيماً. هرع إليّ الرفاق لسحبي بعد مناوشاتٍ عنيفةٍ، أدّت إلى انسحاب الدواعش، والنداء عبر الأجهزة "السيّد عماد شهيد". تلك الطلقة اخترقت جمجمتي من ناحيةٍ إلى أخرى، فتطاير جزءٌ منها، ما أتاح للدماغ مغادرة مكانه، فقام مجاهدٌ بردّه كي يعود جثماني كاملاً إلى أهلي.
* جرحٌ ومعجزة
نُقِلت على جنحِ السرعة إلى مستشفى "صيدنايا" الميدانيّ، حيث خضعت لجراحةٍ في الرأس بعد أن حرّكتُ يدي وتحسّس المسعفون بقايا نبض. أعاد الطبيب وصل الأعصاب التي قُطعت عن عينيّ وأذنيّ، بعدها نُقِلت إلى مستشفى "بهمن" في بيروت. سقط الليل على جسدي الضعيف، فدخلتُ في غيبوبةٍ طيلة أربعة عشر يوماً. كانت توقّعات الشلل تؤرجح اضطراباتي، بعد أن سال الدم من أنفي، وبدت عليَّ علامات الفراق. وكأنّما معجزة كانت، حين عدت إلى وعيي وحرّكتُ أعضائي جميعها؛ فككتُ وثاق يديّ وقدميّ، ونزلتُ عن السرير لوحدي. شدَدتُ بخيوط اليقين مفاصل ذاكرتي، رغم تكهّنات الأطبّاء بتلف الدماغ. ألقى الحزن بمركز أثقاله على شفتيّ بعد معرفتي أنّي جُرحت نتيحة حادث سيرٍ، لكنّ حديث أخي مع الممرّض أنّي أُصبت في "القلمون"، أعاد الأحداث إلى ذهني، فاسترجعتُ المعركة بأكملها حتّى ما قبل إصابتي. استعدتُ قواي بعد أن زارني عبدٌ صالح، لمس كلّ عضوٍ من أعضائي، كطيفٍ نثر على جسدي ترياق العافية على اسم الله، فانفكّ القيد عن شفاه الكلام، وتلفّظتُ بأسماء أهل البيت عليهم السلام، ولم يطل الأمر حتّى خرجتُ من المستشفى مترجّلاً عكس كلّ الظنون.
* دعاءٌ مستجاب
بعد أربعة أشهرٍ، خضعتُ لجراحةٍ في رأسي؛ زرعوا لي طرفاً صناعيّاً (قوقعة) مكان الجمجمة المكسورة. تكرّرت هذه الجراحة مرّات عديدة لتغيير الطرف، وستظلّ تتكرّر، كما أنّني أتابع علاج عيني اليمنى. فالغشاوة ما فارقتها يوماً. أمّا عن أذني، فقد فقدتُ القدرة على السمع بها تقريباً؛ لأنّ عصبها تضرّر كثيراً.
عندما عرف أخي بإصابتي، حاول جاهداً إخفاء الأمر عن والدتي، مع العلم أنّني لم أكن أوّل الجرحى عندها؛ فقد أُصيب أخي قبلي بشهرين، وما زال سريره الطبيّ في المنزل جاهزاً، وكنت قد طلبتُ منها عدم توضيبه قبل توجّهي إلى هذه المهمّة. تشرّب جوفها الأسى، واستشعرت البلاء، حتّى أخبرها أخي أنّي أُصبت بقدمي، فسقط في جيوب الغيب صبرها، حمدتْ الله وشكرتْه، واتّجهت بالدعاء نحو كربلاء، وأقسمت على الله بأبي الفضل العبّاس عليه السلام إلّا ما شفاني.
* إرادة ويقين
اعتدتُ عدم الرضوخ للصعاب وتحدّي المخاطر مهما كانت؛ لذا، لم يستغرب الأهل والأصحاب إصراري على مغادرة المستشفى بعد وقتٍ قياسيٍّ من الإصابة نظراً لخطورتها. مضيتُ قُدماً، واخترتُ زوجةً اقترنتُ بها في العام 2015م، رُزقت منها بثلاثة أطفالٍ، هم الهديّة الأسمى. أسعى جاهداً إلى العودة إلى سوح الجهاد، فعيني اليسرى ما زالت في أوج عطائها، والقنّاص لا يحتاج سوى لعينٍ ثاقبة، ومع الكثير من التدريبات والتأهيلات، سأملك عين صقر، ستكون في خدمة الخطّ المبارك.
أدرّب أولادي على رفض الظلم ومقاومته منذ نعومة أظفارهم، كي تنمو عقيدتهم سليمة على قاعدة أنّ الحقّ منتصرٌ لا محالة، وإن صدئت في ظهره الجراح. نحن قدّمنا الشهداء والجرحى لأجل الدفاع عن المقدّسات، وبقيت السيّدة زينب عليها السلام شامخةً رغم جبروتهم. رحلوا هم، وارتفع مقامها مع بقاء حزبنا القويّ الذي لا يُقهر.
* تجلّي العبوديّة
من الناحية العباديّة، لا أذكر أنّني كنتُ يوماً من الله أقرب سوى بعد هذا الوسام الذي وُهبته. لذا، أشعر باختلافٍ جذريّ عند أداء الصلاة والدعاء وكلّ الواجبات. يفيض على ضفاف الوجد عشق آل محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن وصلتني مظلوميّتهم وتضحياتهم بشكلٍ مختلف. كما أنّي سلكتُ الطريق الأقرب إلى الخالق عبر خدمة الناس، وأسأله المعونة لتلبية احتياجاتهم ومساعدتهم، فهنا تحديداً يكمن تجلّي العبوديّة.
* شكرٌ وامتنان
لمؤسّسة الجرحى كلّ العرفان بالجميل، التي واكبتني وسواي منذ اللحظات الأولى، فكانت المبادِرة لاحتضان جراحنا وبلسمتها، وتابعتنا وعائلاتنا كي نعرف معنى الرّاحة. والشكر متّصلٌ عنان السماء للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، على محبّته ورعايته. أطال الله عمرك يا سيّدي، سأسكب الصمت في أمنيةٍ تتشظّى، فحواها اللّقاء وإن طالت المدّة، فرؤياك وتقبيل يديك حلمٌ أنذر لله النذور ليتحقّق.
الاسم الجهاديّ: عماد.
تاريخ الولادة: 1/1/1992م.
مكان الإصابة وتاريخها: رنكوس 9/4/2014م.
نوع الإصابة: في الرأس.