د. زينب الطحّان
هنا "بلال عدشيت" مرّةً أخرى، لقد أوكل إليه استهداف المركبة الأولى -التي سيُخرَج منها جنود العدوّ ليقعوا أسرى في يد المجاهدين- أوكل إليه بشكل محدّد إصابة المركبة لتعطيلها، دون أن تنفجر. وصلت الدوريّة إلى نقطة المكمن. رفع الحاج قاسم بزيّ رحمه الله سريعاً سمّاعة الهاتف؛ إذ لم يكن المجاهدون المتمركزون في نقطة "خلّة وردة"، في خراج بلدة عيتا الشعب، بحاجة إلى استخدام جهاز لاسلكيّ؛ فقد أُوصِلَت خطوط الشبكة الداخليّة على كلّ نقطة من النقاط التي توزّعت عليها المجموعات العسكريّة.
جاء صوته حازماً: "انقضّوا على الدوريّة".
وجّه بلال سلاحه بدقّة نحو الزاوية التي من المتوقّع أن تخفّف المركبة سرعتها، لحظة وصولها إليها. انتظرها، وفي الساعة 9:01 صباحاً تماماً، وبنداء "يا رسول الله"، أطلق القذيفة معلناً بدء عمليّة "الوعد الصادق". أصاب مركبة "الهامر" مباشرةً، ثمّ لحقه مجاهد آخر برميها بثلاث قذائف "b7"، محقّقين إصابات موضعيّة أدّت إلى إيقاف "الهامر"، حسب الخطّة المقرّرة.
عملت الرشّاشات الثقيلة، من الفرقة الموكل إليها التأمين القريب بقيادة بلال خير الدين (أبو جعفر/ استشهد في القريتين في سوريا)، على تكثيف النيران باتّجاه مركبة "الهامر" الخلفيّة، كذلك أصابت القذائف المضادّة للدبّابات هذه المركبة إصابة قاتلة ودقيقة. قُتل سائقها سريعاً، وقفز منها جنديّان محاولين الهرب، فرُميا بالرشّاشات؛ ليسقطا أرضاً.
عندها أوعز الحاج قاسم رحمه الله إلى مجموعة الهندسة بتفجير السلك التقنيّ، وفتح الثغرة بعبوة خاصّة؛ ليعبروا منها إلى الأراضي المحتلّة. هنا، جاء دور قوّة الانقضاض؛ تقدّم الشهيد حمزة حيدر (أبو مصطفى/ استشهد في حمص عام 2014م)، وستّة من رفاقه المجاهدين، وانطلقوا نحو "الهامر" الأوّل وسط تأمين ناريّ كثيف، تقدّموا بسرعة في الوقت الذي حاول فيه جنديّان إسرائيليّان الهرب نحو الشجيرات القريبة، لكنّ الشهيد عبّاس كوراني (هشام/ استشهد أثناء تأديته واجبه الجهاديّ) -المناطة به مهمّة القنص- سرعان ما رماهما. أصاب الاثنين، فأردى الأوّل قتيلاً، وجرح الثاني الذي استطاع الزحف والانسحاب مبتعداً عن موقع العمليّة.
وصلت مجموعة الانقضاض إلى "الهامر" الأوّل الذي كان قد بقي فيه الجنديّان "إيهود غولد فاسر" و"إلداد ريغيف"، سحبهما المجاهدون. حملوهما من أكتافهما من جهة، ومن أقدامهما من جهة أخرى. ركضوا بهما نحو السياج، وبقي مجاهدٌ أخير، وضع عبوةً داخل "الهامر"، ثمّ فجّرها بصاعق زمنيّ لمسح أيّ دليل قد يساعد العدوّ في كشف ما حصل، أو معرفة مصير الأسرى.
جرى الانسحاب سريعاً، توجّه المقاومون نحو السياج، وخرجوا نحو السيارة التي تنتظرهم. في غضون دقائق، اختفوا من الوجود تماماً! حصل كلّ ذلك تحت إسناد قوّات الانقضاض بقيادة محمّد عسيلي (ذو الفقار/ استشهد في معركة مارون الراس في تمّوز 2006م).
الساعة 9:06، رفع الحاج قاسم رحمه الله السمّاعة مرّةً أخرى. هذه المرة اتّصل بغرفة القيادة: "بلّغ صاحبنا، الأمانة صارت عنّا". أُبلغ الأمين العام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أنّ العمليّة جرت بنجاح، دون وقوع شهداء أو جرحى للمقاومة، وعن الأسرى: "جنديّان غائبان عن الوعي". انتقلت غرفة العمليّات المركزيّة للمقاومة إلى غرفة متابعة الحوادث الطارئة، التي كانت مُحدّدة مسبقاً. استُدعي المعنيّون جميعاً، وقُسّم العمل إلى ثلاثة أقسام: قسم لمتابعة العمليّة، وقسم لمتابعة ردود فعل العدوّ، وقسم للاستنفار والجاهزيّة. ارتأى السيّد نصر الله (حفظه الله) أن لا داعي لاستنفار علنيّ لجميع الوحدات العسكريّة، بل فقط للفريق المعنيّ بالمتابعة.
في هذا الوقت، كانت قد هدأت النيران في منطقة "خلّة وردة" على أرض العمليّة. لكنّ العمليّات تواصلت؛ فتحت مجموعة إسناد القوّات المتقدّمة النيران على امتداد عرض خطّ الحدود، بقذائف الهاون وقذائف المدفعيّة لإلهاء العدوّ بالنيران. وفي محيط موقع راميا المشرف على الخلّة، كان إبراهيم الحاج (أبو محمّد سلمان/ استُشهد في العراق) يؤمّن من بعيد عمليّة الأسر؛ لمنع أيّ قوّة مساندة للعدوّ من التقدّم إلى المكان، وتعطيل أيّ مجموعة إسرائيليّة تسعى إلى الالتحاق بالجنود، وقطع طريق الإمداد عليها.
في الجهة المقابلة، كان مسؤول السريّة الإسرائيليّة قد رفع تقريراً إلى قيادة الكتيبة، أنّه سمع نداء "تعرّضنا لهجوم" من الجنديّ الذي هرب. عبثاً حاولوا الاتّصال بالدوريّة.
الساعة 9:27؛ أي بعد 26 دقيقة، بعث قائد الكتيبة ببلاغ "هنيبعل" إلى قيادة الفرقة؛ لإطلاق وابلٍ من الرصاص الكثيف في محيط المنطقة، التي يُشتبه في أنّ عمليّة الأسر قد جرت فيها، ومنع القوّة المعادية من التحرّك بعيداً عن منطقة الاشتباك، والتمكّن من إخفاء الأسيرين وتأمينهما. أخذ الإسرائيليّ قرار الدخول والسعي وراء المجاهدين في منطقة عيتا الشعب. أرسل دبّابة إلى موقع "قبّة العلم"، التي تحرّكت على مسار جانبيّ خوفاً من المرور فوق ألغام يمكن أن تكون المقاومة قد زرعتها في مكان العمليّة.
احتاط العدوّ، لكنّ قيادة المقاومة حسبت حساب احتياطاته أيضاً بحذافيرها. وضع المقاومون عبوة في المكان الذي افترضوا أن يمرّ فيه العدوّ إذا قرّر ملاحقتهم، وكان مساراً مختلفاً. بناءً عليه، كانت مجموعات من المقاومة قد زرعت، بالتخفّي، عبوةً تحت أعين الكاميرات الإسرائيليّة. تقدير مسبق تبيّن نجاحه سريعاً.
الساعة 11:00، كانت غرفة قيادة الأركان في تلّ أبيب تضجّ بحضور وزير الدفاع "عمير بيرتس" ورئيس الوزراء "إيهود أولمرت"، وقادة الأذرع العسكريّة، لمتابعة مجريات تطوّر العمليّة في بثّ مباشر على الشاشات أمامهم. انطلقت دبّابة ميركافا 4 إلى داخل الحدود اللبنانيّة، في طريقها نحو هضبة تُشرف على طريق يُحتمل- حسب تقديرهم- أن يستخدمه مجاهدو "حزب الله" للانسحاب. تقدّمت 5 أمتار فقط؛ لتنفجر فيها عبوة ناسفة.
تهاوى جبروت المدرّعات الإسرائيليّ، حين ارتفع برج الدبّابة في الهواء وغرق جسمها في الأرض، على مرأى من قادة الكيان. وفي الوقت الذي كان العدوّ الإسرائيليّ لا يزال تحت تأثير صدمة الميركافا 4، كانت المقاومة قد أخلت الأسيرين، بنقلهما من موقع إلى آخر. كان الأسيران في وضع ميؤوس منه، ولم تفلح محاولات مجاهدي الإسعاف الحربيّ في إعادة الحياة إليهما.
8 قتلى وأسيران و4 بنادق، كانت تلك الحصيلة التي أقرّ بها العدوّ نتيجة عمليّة "الوعد الصادق". عمليّة لم تتجاوز مدّتها 6 دقائق.
6 دقائق غيّرت مسار منطقة، لا بل أسقطت مخطّط "الشرق الأوسط الجديد".