مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها أذكار | شهر رمضان المبارك آخر الكلام | الأوراق المغلّفة الافتتاحية | ما أفضل أعمال شهر رمضان؟ القرآنُ مشروع حياة

تسابيح جراح: حدسي أنبأني


لقاء مع الجريح المجاهد حسن قاسم عبّاس (قاسم جواد)
حنان الموسويّ

 

طال عنق الليل فمرّ متثاقلاً علينا. كلٌّ منّا أدّى مهمّته وانصرف يتابع شؤونه. كان مسؤول الدعم الأكثرَ تعباً بيننا، ما جعل قلبي يرقّ لحاله، فآثرت الذهاب بدلاً عنه لتسلّم الطعام حتّى يرتاح لوقتٍ أطول. استدعيتُ أفراداً من الفريق الآخر للمساعدة وانطلقنا. عبرت باب مشفى الزبداني منطلقاً نحو الباحة، محذّراً رفاقي من الغربان القنّاصين المحيطين بنا. لفتني وجود فراشٍ تكوّم وسط الطريق. استغرابي الذي كان بادياً على وجهي، قطعَته طلقات القنّاص التي أصابت معصمي فسال دمه، ثمّ اخترقت بطني، وشقّت طريقها في أحشائي حتّى خرجت من حوضي، تاركةً خلفها جُرحَين ينزفان! ذاك الفراش احتضنني حين وقعت، غرقت بين ثناياه بينما كان بدوره يتلقّى الطلقات بصمتٍ، ويغمر أجيال دمي المهيّأة للرحيل برفق.

* يتمٌ وقدوةٌ حسنة
عرفت اليتم باكراً، فقدتُ والدي في سنّ الثالثة عشرة؛ لذا أُدخلت مدرسةً داخليّة، درست فيها حتّى الصفّ السابع الأساسيّ. بعدها، وتأثّراً بإخوتي، تقدّمتُ بطلب انتسابٍ إلى التعبئة، فخضعتُ لدورات ثقافيّة وعسكريّة عديدة، إلى أن صرت من أفراد فرقة الرضوان، فتركتُ عملي المغري في شركة الأدوية؛ لأنّ شعوري بالتكليف دفعني للتوجّه إلى سوريا رغبةً في الدفاع عن المقدّسات والأهل هناك، ما أثار خوف والدتي عليّ وزاد من تعلّقها بي.

طال تدريبنا خمسة أشهر، وطئنا بعدها تراب القصير، وصرنا نجوب تلك الأراضي نحرّرها من التكفيريّين؛ من يبرود، إلى السهل، فالزبداني، حيث كان المستقرّ.

* سأعود يوم العيد
شارف شهر الله على نهايته وأنا في سوريا؛ لذا طلبتُ من مسؤولي السماح لي بالرجوع إلى لبنان كي أفطر مع والدتي ليومٍ واحدٍ على الأقلّ. عدتُ وحظيتُ برضاها، إلّا أنّ شيئاً ما دفعني للبوح لها أنّي سأعود إليها يوم العيد، دون معرفة السبب أو امتلاكي لأدنى معلومةٍ تخوّلني قول كلام كهذا، خصوصاً وأنّ قائدي طلبني للعودة سريعاً بعد يومين من رجوعي إلى لبنان. كلّ المعطيات كانت تشير إلى أنّ التحاقي بالجبهة سيطول، إلّا حدسي أنبأني بشيءٍ مختلف!

* عيد الجراح
كانت المهمّة تطهير مدينة الزبداني من التكفيريّين. بدأ المجاهدون الهجوم. أسقطنا مستشفى الزبداني وقمنا بتطهير المباني حوله، إلّا أنّ الضواحي لم تخلُ من وجود المسلّحين.

بعد وصولي بيومٍ، أُمِرت بضرورة تسلّمي نقطة المواجهة؛ بسبب تعب مسؤولها الأساسيّ والإجهاد الذي تعرّض له في الليلة السابقة، ولأنّ استكمال الهجوم سينطلق من هذه النقطة؛ فوجب تنفيذ الأمر.

هو عيد شهر رمضان المبارك حلّ بعظمته. رحنا نطلق عصافير المعايدات. تنحني المجازات إجلالاً لطهارة نفوس من غادرهم الصوم جذلاناً، تليق بهم الراحة بعد ظمأ عروقٍ طال على مدى النزال. أُعلمنا بقدوم إمدادات الطعام، فتوجّهتُ ومن معي لتسلّمها، بعد أن تكفّلت بذلك حنوّاً على زميلي الذي ناوب الليل بطوله. مضيتُ وكلامي موجّهٌ إلى المجاهدين بضرورة الحذر من القنّاص، بعد أن اكتشفت أنّه بدّل مكانه، وشرد ذهني بفراشٍ مرميٍّ وسط الطريق، تساءلت عن سبب وجوده، وخلال لحظاتٍ، أتاني الجواب حاملاً إيّاي إلى عالمٍ آخر، اتّسعت معه عين المعنى، فخبِرت الوجع بأصالته، بعد أن نفذت طلقات القنّاص إلى جسدي، فأصابت معصمي وبطني وخرجت إحداها من حوضي. أفقدني الألم اتّزاني فسقطتُ يحتضنُني الفراش نفسه الذي أثار استهجاني، فأدركتُ لاحقاً حكمة وجوده. حين هويتُ، بدأ المجاهدون بإطلاق النار على أماكن القنّاصين وبعض مواقع التكفيريّين التي رُصدت؛ حتّى يتمكّنوا من سحبي. حملني الرفاق من الميدان على ذاك الفراش إلى المستشفى الميدانيّ. كان ظنّهم أنّ إصابتي تركّزت في معصمي، إلّا أنّ المسعف أخبرهم أنّي أعاني نزيفاً داخليّاً، بعد أن اكتشف إصابة بطني وحوضي. حينها، فقدتُ الوعي، وأيقظتني الدهشة المختنقة في صوت قائدي حين سألني إن كنت أحتاج شيئاً. فقدتُ وعيي مجدّداً، ولم أستعده سوى في طوارئ مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت.

* غصّة واصطبار
وصل الخبر أوّلاً إلى صهري وأختي، فحاولا إخفاء الأمر عن والدتي حتّى إيجاد طريقةٍ مناسبة لذلك، إلّا أنّ غصّةً باغتتها عند تناولها لطعامٍ أحبّه، دفعتهما للبوح لها بإصابة معصمي فقط، لكنّها حين حضرت إلى الطوارئ لم تتعرّف عليّ لشدّة تورّم وجهي وجسدي، وكثرة الأجهزة التي اتّصلت بأعضائي. صبرها كان لافتاً، وكذلك احتسابها لجراحي وأذاي وتعبها طيلة أيّام مكوثي في المستشفى، كلّ ذلك كان في سبيل الله، ولا غرابة من تصرّفها، فهي أخت شهيدٍ اعتادت الاصطبار. لقد صدق حدسي فعلاً. ها قد عدتُ إليها يوم عيد الفطر!

في تلك الغرفة عزفت جراحي موسيقى الخطر الذي أحدق بسلامتي، فبقيتُ أتأرجح بين الحياة والموت لأربعة أيّامٍ، ومكثتُ في غرفة العناية الفائقة مدّة أسبوع، أدرك أهلي خلالها خطورة وضعي. وخلف فراشة الضوء خضعتُ لجراحاتٍ عديدة في بطني، وأمعائي، ومعصمي، وحوضي، وقدمي بعد أن تمزّقت أعصابها. لازمتُ الكرسيّ المتحرّك طيلة سنة ونصف، التقطتُ خلالها جرثومةً خطرة فتكت بجسمي النحيل، فأدخلتني في غيبوبةٍ دامت اثني عشر يوماً، ولكنّ الأطباء قضوا عليها لاحقاً رغم أنّها بقيت مجهولة المصدر، وما زلت أتلقّى العلاج حتّى يومنا هذا.

* زفاف شهيد
لم تكن زيارة رفاقي لي في المستشفى كسابقاتها؛ رأيتهم يتغامزون والأسى يلجم ألسنتهم. ضجيجٌ مثقلٌ بالقلق انتابني، حتّى عرفتُ سبب اضطرابهم؛ إنّه صديقي حسين حمّود، الذي زارني في الأمس القريب، ولكنّهم يزفّونه شهيداً. حاكت له الشمس جناحَين فحلّق من هذه البئر وحده، تاركاً إيّانا في سجن الدنيا بكلّ جوارحنا الرثّة. اختصرت الحديث حين نبت على دمعي الغريب الكلام: "استشهد حسين"! عبارة كانت كفيلة بتحويل غرفتي في المستشفى إلى محطّ عزاء، فظلّل بذكره على قلوبنا الوحيدة، فكان عهدنا له بأن نتابع الطريق ونحافظ على حرمة دمائه.

* حياة جديدة
أشرقتُ بعمرٍ جديدٍ يرشّ الضوء في قدري، حين قرّرتُ متابعة حياتي بعد خدَرٍ ملَلت مواسمه. عقدتُ قراني عام 2018م، ورزقتُ بطفلٍ اسمه عليّ عام 2020م؛ روحه سُكِبت في روحي فانصهرتا حتّى صارتا روحاً واحدة. تعلّقه الشديد بي لافتٌ جدّاً، حتّى أنّني حين تثقل الدنيا على كتفيّ، أهرع إليه فأرتاح. زوجتي آمنت بعزيمتي وإرادتي، وأنا بدوري لم أخذلها، وأسعى إلى توفير أفضل سبل العيش الرغيد لها، فهي تستحقّ كلّ الخير.

* سفر الأعمار
زادت جراحي تعلّقي بأهل البيت عليهم السلام أكثر؛ فأن أكون من بين الذين وضّبوا أعمارهم للسفر نحو كربلاء قولاً وفعلاً، يعني أن أعلن جهوزيّتي للرحيل في أيّ وقتٍ ولأيّ ظرف، خصوصاً حين تكون أنظار الناس مثبّتةً على من اقترن اسمهم بقمر الهاشميّين أبي الفضل عليه السلام، فكان يوم ولادته عيدهم وباسمهم: يوم التضحية والإيثار والقرب من الله، ويتجلّى ذلك بأنصع صورة في المجالس الحسينيّة؛ لذا عزمتُ على مواصلة الطريق في بيت الجريح؛ أنمّي موهبتي الحرفيّة، وأصيغ التحف المميّزة، وأقتل أيّ فكرة للهزيمة أو الاستسلام.

* همس الوجدان
إلى سماحة الأمين على الأرواح، السيّد حسن نصر الله، أطال الله في عمره، أقول: هنيئاً لك ما قدّمت في سبيل الله. كلامي يعجز عن وصف إحساسي. أمنيتي لقياك مجدّداً لأسكن زمانك كلّه، فحبّك سيلٌ لا توقف مجراه الجروح. نشوة اللقاء الأوّل عام 2014م لمّا تغادرني بعد. حضورك يا سيّدي، يدسّ في النفوس روحانيّة تفيض بالأنس. أدعو الله ليل نهار أن لا يبرد شوقي إليك حتّى لُقياك، وأن أكون مع ابني وعائلتي وكلّ من أعرف جميعاً فداءً لسلامة عينيك.

أمّا للناس: وُجد حزب الله منكم وبكم. لقد قام ليحيي الكرامة والعزّة اللتين وُئِدتا منذ تواطأ البعض على أهل بلده مع العدوّ الغاصب، فوضع نصب عينه العداء للمقاومة وأهلها، فليكن موقفكم واضحاً ومحقّاً، فدماء الشهداء والجرحى التي افتدتكم وحمتكم لها حقّ الحفظ والصون.

أصدقائي الجرحى: إنّ الجراح هي وسامٌ كبيرٌ لنا يوم القيامة، وصراط عبورٍ نحو الجنّة لا رمز له سوى الصبر. فلتكن ثقتكم بالله كبيرة، وازرعوا العزيمة في حقول نفوسكم، وافخروا أنّكم من جرحى حزب الله، لو تعلمون مدى غبطة البعض لكم على تلك المرتبة التي حظيتم بها في الدنيا وسترزقونها في الآخرة.

الاسم الجهاديّ: قاسم جواد.

تاريخ الولادة: 10/6/1993م.

مكان الإصابة وتاريخها: الزبداني 1/7/2015م.

نوع الإصابة: في البطن واليد.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع